وفي رحيل الحاج تتأوه الأماسي وتتقاصر المراثي…

ولألوان كلمة
وفي رحيل الحاج تتأوه الأماسي وتتقاصر المراثي…
أربعون عامًا من الصداقة والأخوة والمصاهرة والتلاقي في الله والوطن مع الأخ الراحل عبد الرحمن الأمين دياب. أربعون عامًا لم نفترق في السّراء ولا الضراء، وكان دائمًا صاحب خلقٍ وفضائل وبذلٍ وكرمٍ ورفعة. أربعون عامًا وإني على ذلك لشهيد لم أره قط يرفع صوته على أحد أو يده أو لسانه، كان عفيفًا وطاهرًا وزاهداً. كان المالُ أبدًا في يده لا في قلبه.
فإذا لاقاك بالباب بشوشًا وحفي
بضمير ككتاب الله طاهر
**
فهلمي يا منايانا جحافل
تجدينا لك أنداد المحافل
القِّرى منا وفينا لك والديوان حافل
ولنا صبر على المكروه- إن دام- جميل
أربعون عاما لم نر فيه تجاوزًا أو غلظةً أو غضب. كان رجل محض خيرٍ وبركة، ابتسامته لا تفارق ثغره، وعطاياه لا تنقطع عن القريب والبعيد. كانت ساحة داره هيئةً للأمم يجتمع حوله الفرقاء والخصوم، ويخرجون من عنده بأنفسٍ راضية وقلوب خالية من الصغائر والإحن والأحقاد.
أربعون عامًا لم نر فيه إثمًا أو خطيئة أو خطأ أو حتى لمم عابر. كان فياضًا بالخير لأهل بيته ولأصدقائه ولأحبابه وعلى عارفي فضله في المنافي والمرافئ والبوادي والحواضر.
أربعون عامًا كان صبارًا على الألم والمرض والحزن وفقدان الأخوة والأصدقاء والأخوان بالرحيل المر. كان دائماً يعزيك حين تعزيه ويمنحك الطمأنينة واليقين حين تواسيه.
وبرحيل الأخ والصديق عاشق ود مدني وأمدرمان تنطوي صفحة من صفحات العفاف والرضا والكرم الحاتمي، وتنطوي جسورٌ من الإلفة ومعابر من الصدق والتحنان والمروءات.
كلما قابلت عبد الرحمن أطلت في خاطري أبيات أبي تمام التي كأنما قيلت في حقه وسيرته:
مَنْ لي بإنسانٍ إذَا أَغْضبتُهُ
وجَهلْتُ كَانَ الحِلْمُ رَدَّ جَوابِهِ
وإذَا طَرْبتُ إلَى المُدامِ شَربْتُ مِنْ
أخْلاقِه وسكِرْتُ من آدابِهِ
وَتَراهُ يُصْغِي للحِديثِ بِقَلْبِهِ
وبِسَمْعِهِ ولَعَلَّهُ أَدْرى به
وأذكر في آخر لقاءٍ كان بيننا على الهاتف وقد أجابني وهو في غرفة الإنعاش بصوته الهامس اليقيني وقد داعبته بلغة أولاد مدني الودودة
هل من عودة تاني .. أم هي مستحيلة
أم نُبرق مدني برسالة حميمة بين يدي العيد قصة الريدة انتهت
وضاعت أيامنا الجميلة
ضحك في اختصار وقال لي مازحاً بنبرةٍ فيها حزن عميق: أضف لبرقية مدني وأمدرمان أخرى للسودان البعيد
عدت يا عيد بدون زهور
وين سمرنا ووين البدور
غابوا عني
وقبل أن تنقضي أيام العيد نعى الناعي رحيل عبد الرحمن فأخرس حزنه منابع الفرح بالمدى والدنيا والناس. وكان الصبر الوحيد الذي تعلقنا به لو أن الحياة تدوم لكتب الخلود للمصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكنها تصاريف الابتلاء منذ فجر الخلق الأول وانبثاق البشرية قال تعالى ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)
ولأن الراحل عبد الرحمن عليه الرحمة مترع القلب بجميل الشعرِ والكلمات، ولأنه كان وقّافًا عند شفيف المعاني والمباني، فقد طاف بخاطري هذه المرثية التي تدفقت في ساعة من الزمان وأنا أعود القهقرى من مقبرته النائية في إحدى الرمال المصرية البعيدة عن أحمد شرفي التي يحيطها السُمر بالتكبير والتهليل. وله العذر والعتبى في مراقيه إن جاءت الكلمات أقل من مقامه الرفيع بين الأخيارِ والأصهارِ في جنات الخلد وفي صحبة الأتقياء الأخفياء والشهداء والصالحين.
دمعات أب حَرَاز بلّن خدود النّوبَة
وأخواتك بكنْ من المسيِّد لي سوبا
العركي إرتكز مِستنِّي فارس الحُوبة
والسُّني اعتكف بالذاريات والتوبة
هللي يا (نجاة) وسوّي المناحة تكية
وبير (الحاج) نبع ما دام صدقتي النية
يا أخت الشهيد والراية والوطنية
وجَدِك من قديم إتقدم الصوفية
فات المرتجى توم الأمير يا (السّاره)
الداخرِنو باكر للعسيرة وحارة
البضبح فجُر قلب السمينة وداره
يا (المهدي) استلم الليلة جاتك تاره
غاب قمر السُبوع ضو القبيلة الماهل
ومجلسنا إنقفل عِدم الأنيس يا (الفاضل)
يا ود المحيط الغطى جودو الساحل
جمّاع القلوب من الصعيد للسّافل
أبو (هاجر) رحل ضُل النهار الهاجر
قضّاي الغروض لي جارو باذل وساتر
عطّاي وقتي ما بقول ليكا لسه وباكر
صابرين، ما الأجل في الدنيا كاسا داير
أبو (محمد) رحل الديمة فاتح داره
وفي ليل الشتاء دايمًا مولع ناره
الصافي الحليم فيك الأعادي احتاروا
لازمين اليقين ما دام حبيبه اختارو