محمد ميرغني .. وتبقى سيرتك هي الكلام …

بقلم: أمير أحمد حمد
تغتمض عيناه حينما يغني تحتشد دواخله بأنغامه الشجية التي ربما كانت سببًا في ذلك الإغماض البصري، فحقًا يستحيل أن تستمع إلى أغنياته وأنت مبصر العينين وإن لم تغمضها فتسرح بخيالك إلى عالم من الطرب والإندياح والسرحان في مدلوله أعمق من الإغماض في إدراك الأشياء:
أنا والأشواق فى بعدك
بقينا أكتر من قرايب
ما بنغيب عن بعض أبداً
أعز اتنين حبايب
كنت فاكر الشوق
يغيب لحظة واحدة
عن فؤادي
مع الزمن يتلاشى وجدي
قلبي يسلاك في بعادي
وشوقي قال لي مستحيل
مرة يتحقق مرادي
ولازمني زي خلي الوفي
بهذه الكلمات الرقيقة واللحن الوسيم كانت بدايته الفنية، ويالها من بداية كتبت ميلاده الفني في سجل الإبداع والنغم السوداني المعتق، كتبها بخط نغمي صححه المستمع والمتذوق السوداني فنال درجة الإمتياز، وأردفها بسطر نغمي آخر من نفس المنهج السابق (الشاعر السر دوليب والملحن حسن بابكر):
مين فكرك يا حبيبي مين الهداك إليا
جرحي قرب يطيب جددته تاني عليا
أنا قلت حبنا راح مر الزمان وطواه
والباقي منه شجن وعذابنا في ذكراه
لقيته أكبر حب بين القلوب مأواه
ماقدرت يوم أنساه ولا هان علي أسلاه
لكنى رغم البين رغم الفراق الطال
كانت مشاعري تقول أبدًا فراقنا محال
ما ليا غيرك شريك ما ليك غيري مآل
جمعت قلوبنا محبة ربطت حياتنا آمال
يا حبيب كفانا خصامنا كفانا هم وضنا
ما بتقدر إنت تلومنى وما بعاتبك أنا
جاءت الكلمات مموسقة وتحمل في طياتها بوادر لحنها الأنيق استخرجه كما ذكرنا الفنان والملحن حسن بابكر مستخدمًا انامله الأكثر أناقة عندما تداعب مزهره. ليس مستغربًا أن يأتي بهذه الألحان الشجية لأنه كان تشبع بجميل الأنغام حينما كان عازفًا للكمان في فرقتي عثمان حسين ومحمد وردي فإرتوت دواخله بجميل النغم فكان شلالًا قد انفتح عبر حنجرة فناننا الفخيم.
وعندما تأكدت موهبته الفنية بين جلاسه وحاشيته المحيطة به وأثنوا عليه توجه بخطى ثابتة إلى إجازة صوته وكعادة فناني ذلك الزمان كانت تجاز أصواتهم بأغنية عبد الحميد يوسف أذكريني ياحمامة، ولكن فناننا لم يحلق في سماء اللجنة بتلك الحمامة ولكن صدح لهم بأغنية (أضيع أنا وقلبي يزيد عناه) التي تغنى بها إبراهيم عبد الجليل من كلمات بروف الأغنية السودانية عبد الرحمن الريح. وبدأت الإنطلاقة الميرغنية بصوت به حلاوة ونداوة إنداح في الوسط الفني في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي وهو وقت ازدهرت فيه الأغنية السودانية فظهرت مجموعة من الأصوات الندية فكان أبوعركي والطيب عبدالله واللحو وغيرهم. ولو لم يكن موهوبًا لما وجد مكانًا بين هؤلاء العمالقة .
اختار أغنياته بعناية جعلتها مطلوبة بين الجماهير إلى يومنا هذا وإلى يوم غد بإذن الله فقد كان رجل من أهل التدريس ورجل لبيس في هندامه، لذلك كانت كل أغنياته تتحلى بمفردات تعكس ما به من ثقافة وإلمام بما يريده معجبيه وعموم المستمع السوداني، رغم أنه لم يكن ميالًا للتلحين وكيف له أن يلحن وإلى جواره شلال من الألحان المتدفقة كما ذكرت إعلاه الأستاذ حسن بابكر الذي ناصره في بداية حياته الفنية ولحن له أكثر من 75% من أغنياته فإكتملت اللوحة الميرغنية في مرسم الغناء السوداني بانضمام مجموعة من الملحنين، فكانوا نقوشًا زينت اللوحة الميرغنية أمثال محمد سراج الدين والتجاني حاج موسى وعبدالله عربي والسني الضوي والعاقب محمد حسن وعبيد محمد أحمد وغيرهم.
وقيض الله لفناننا مجموعة من ألمع نجوم المفردة الشعرية في بهو الأغنية كما ذكرنا منهم السر دوليب فكانت أنا والأشواق (الشوق والحبيب) ومين فكرك وصويحباتها.
وكان ود حد الزين إسماعيل حسن حضورًا في دفتر اللوحة الميرغنية بعيونه التي لا تقدر على الهباباي في عز الليل ولكن عاد وأشتاق إليها (اشتقت ليك) وأردفها بالغريب وحنان الدنيا وأفراح البلد. أما حسن الزبير صاحب المفردة المسربلة بالحكمة والفكاهة فكان بين (الريدة) وتلك التي وصفها بأنها لا تفاصل ولا بتواصل ولا بتلوم فكان هلاكه منها قبل يومه فكان (لا الصابر ولا الباكي) لأنه أصيب (بجرح الحب). أما صلاح حاج سعيد فقد جاء بالجديد فكانت الوصية لمن وقع في الحب (ما قلنا ليك الحب طريق قاسي ولهيب) ولكن المحب عصى أمره فكانت (لو عصيت أمرك أنا) اما التجاني حاج موسى فقد جاء لفناننا بـ (ليلتين علي) فكانت (تباريح الهوى) وأخواتها (حلو العيون) و(يا طير يا راجع لعشك).
وهكذا كانت حاسة فناننا الذواقة جعلته يتنقل بين حلو الكلام وشجي الأنغام، فغنى لعدد وافر من الشعراء منهم السر قدور (حنيني إليك) وشاعر ضنين الوعد (سبأ) والشاعر أبو شورة حاضرًا بعاطفته وحنانه، وكذلك صاحب اللون الأنيق في اللوحة الميرغنية الشاعر حدربي محمد سعد (النازلة ماشة على البحر) والشاعر عثمان خالد (السمحة الصيدة) ومصطفى سند (عشان خاطرنا) وصلاح أحمد إبراهيم (سهمك الفتاك أتلف المهجة).
ولا ننسى العنصر النسائي في بهو غناء فناننا الفخيم فكانت الشاعرة بثينة رجب حاضره فقد أقرت بـ (أحلى مافي الدنيا ريدنا) وآمنة خيري صاحبة قصة الريد القديمة فجاءت بـ (شقى الأيام). هؤلاء الشعراء على سبيل المثال فهم كثر. كما لا ننسى أن فناننا قد تناول عدد من أغنيات الحقيبة
كأغنية البديع هواك سباني لحن كرومة وكلمات أبوصلاح، كما غنى أرجوك يا نسيم من كلمات عتيق وألحان كرومة وغيرها من الأغنيات. وقد أبدع أيما إبداع في أدائها فكانت سندًا وعضدًا له في مسيرته الفنية.
في يوم الثلاثاء الثاني عشر من ديسمبر 2023م الهدهد الحزين حمل لنا نبأ رحيله المفجع من أرض الجزيرة مدني بعد مسيرة حافلة بالعطاء الفني والتربوي، ولكن ستظل أشواقنا في بعدك في حنين إليك وستبقى (سيرتك هي الكلام). نسأل الله أن يتغمدك برحمته الواسعة ويجعلك في الفردوس الأعلى وهو القادر على ذلك.
إنا لله وإنا إليه راجعون.