تحالف التوكل الواثق والصواريخ الفرط صوتية

ولألوان كلمة

 

حسين خوجلي

 

 

تحالف التوكل الواثق والصواريخ الفرط صوتية

 

 

قال الشيخ لتلميذه الفتى، في درسٍ عن التوكل على الله، والقصة من حكايات أهل الصلاح والصالحين في بلاد السودان: أعلم أن التوكل الشرعي والثقة بالله، والإيمان به خالقًا لمقادير الإنسان، من واجبات التوكل الصحيح، أن يقترن بالأسباب. ولكن إذا استوثق الإنسان من إيمانه، واتقى الله حق تقاته، فحينئذٍ تحدث الكرامات والمعجزات: فالنار لا تحرق، والبحر لا يغرق، والسيف لا يقطع، والكفيل لا يمنع.

وكان الشيخ يستدل على كمال التوكل على الله بسيرة السلف الصالح، مثل توكل صاحب رسول الله ﷺ وخليفته، أبو بكر الصديق، الذي رغم تمرد بعض القبائل العربية بعد انتقال المصطفى ﷺ إلى الرفيق الأعلى، وإثارتهم للفتنة، وامتناعهم عن أداء فريضة الزكاة، وهي الحادثة التي سُميت في التاريخ الإسلامي بـ”الردة”، واجهها الصديق رضي الله عنه بقراره الحازم وكلماته القاطعة: “والله لو منعوني عِقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله، لقاتلتهم عليه.”

وقد تأبّى على نصيحة وفقه عمر، الذي أشار عليه بأن بعض التنصل عن حدود الله لا يسقط عنهم صفة الإسلام، فصاح فيه أبو بكر بجرأة المؤمن المتوكل، الفقيه، المرتوي من نبع المصطفى ﷺ: “أجَبّار في الجاهلية، خوّار في الإسلام؟!”

ورغم كل تلك الأحداث الساخنة، فقد أصر أبو بكر، بتوكله المعهود، على أن يُنفذ ويبعث جيش أسامة بن زيد لمقاتلة الروم، عملًا بوصية الرسول ﷺ.

وعندما رأت القبائل المتمردة والمرتدة جيش أسامة وهو يخرج بجحافله وكبار الصحابة، خافوا، وزرع الله في قلوبهم الرعب، وقالوا لبعضهم: “ما دام أبو بكر قد بعث هؤلاء، فإن هذا يعني أن الذين هم في رباط المدينة أقوى وأكثر.”

فخافوا، وسلم بعضهم، وقاتل ما بقي من جيش الصحابة العصاة منهم، فردوهم على أعقابهم، وأعادوا للدين وضّاءته، وللدولة هيبتها.

وفي سياق الحديث عن التوكل على الله، سرد الشيخ لتلميذه الفتى توكل عثمان بن عفان رضي الله عنه في تأسيس أول أسطول بحري، على يد معاوية بن أبي سفيان، حيث كان عمر رضي الله عنه قد أجّل القرار خوفًا على المسلمين لعدم معرفتهم بركوب البحر. لكن عثمان أجاز القرار، وفتح به معاوية مجموعة من الجزر، من بينها قبرص، ودخل خلق كثير في الإسلام.

ثم تلا الشيخ، بصوت خاشع، استدلالًا على ما قاله لتلميذه، قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ وزاده في الاستدال من سورة الأنفال ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ومنها استدل الفقهاء أن التوكل يكون في الحرب كما يكون في السلم.

وبعد شهرٍ من هذا الدرس، طلب الشيخ من تلميذه الفتى أن يذهبا معًا إلى عزاء أحد الصالحين، الذي كان يسكن في قريةٍ تقع على الضفة الأخرى من النهر. وعندما بلغا الشاطئ، جلس الشيخ منتظرًا قدوم المركب، فقال له التلميذ متسائلًا: ـ هل أصابك التعبُ لنستريح؟

فأجابه الشيخ: لا، ولكنني في انتظار عودة المركب من الضفة الأخرى.

فقال له الفتى متعجبًا: ولماذا ننتظر؟ فلنذهب حتى لا تغيب عنا الشمس!

فقال له الشيخ مستغربًا: وكيف نذهب والمركب بعيد؟

فقال الفتى بإيمان صادق: والله، إنني لأمشي على الماء منذ أن سمعت درسك في التوكل! ومشى أمام شيخه على الماء، حتى قطع الطريق إلى الضفة الأخرى.

وانتظر الشيخ المركب، وعندما التحق بتلميذه، قال له ناصحًا: ـ عليك، منذ الآن، مفارقتي؛ فقد أصبحت صاحب قدم في الصلاح والتصوف والزهد والعرفان، وقد استبانت طريقتك، فابحث لك عن تلاميذ وأتباع. وإن رضيت عني، فأنا أول التلاميذ…

وإني في هذا الراهن، لا أجد هديةً ولا نصيحةً لطهران المقاتلة الباسلة، التي تواجه صلف الصهاينة والصليبيين والناتو والقتلة والمجرمين وتحالف الشر، إلا هذه الحكاية، التي تتحالف فيها الصواريخ الفرط صوتية مع التوكل المحض والثقة بالله.

وقد ذكرتني بسالتها مطولتي الأولى، وأنا في السنة الجامعية الأولى، تلك القصيدة التي انتشرت آنذاك بعد انتصار الثورة، والتي يقول مطلعها:

 

 

يا مجمع العشاق مقتولٌ أنا من رمش تلك الفارسية

من وجدها، من شعبها، من كفها المسماحِ تحضن بندقية

وعلى شغاف القلب ترتاح المقادير الكبار، وتعتمل الجوانح باليقين وبالقضية

يا آية لله في عينيك، في كفّيك، في ألق الحجاب

ورِضىً لنفسي في هواكِ المستطاب

وجموعُ شعبكِ اتقادًا في المضاي، والتحافًا بالثريا وبالسحاب

إن كان مهركِ يا لثأرات الحسين، وسهل عشقكِ كربلاء

فأنا الجديدُ على رضاك، وأنا الحريص على المضاء

وأنا التسامي في دروب الوجد أختارُ الفداء

فالموت في تبريز أو طهران بعضُ الوجد، بعضُ العشق، بعضُ الكبرياء

 

 

والشعر والحديث ذو شجون.

فحين طُرد الشاه العميل، وطُرد السفير الإسرائيلي من طهران المباركة، كانت هذه القصيدة المطوّلة التي تصلح اليوم أن تُنشر كتابًا. وهي أقلّ قلادة يمكن أن نعلّقها على جيد الشعب الإيراني الصابر، المقاتل، كالسيف وحده، مدافعًا عن شرف الأمة ضد الترويع والتطبيع والإخضاع.

وفي حق شهدائها، تطلّ آية الرضا بالشهادة والشهداء، قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۝ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ۝ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۝ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ۝ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). [آل عمران:169- 175]