عمدة وكلب وراهن

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

عمدة وكلب وراهن

المرجعية العربية السلطوية في مجال الأفكار والسياسة والاقتصاد والدفاع والأمن والشأن الخارجي تجد عسراً شديداً في كسب ود الجماهير أو إقناعها بعد أن تعرضت هذه المرجعية لفقر دم رهيب في الصدقية والجدية والأعمال والأفكار المرتبطة بالاستراتيجيات.
فلم يعد المواطن العربي ما بين الخليج والمحيط يصدق حديث وزراء المالية حول الميزانية والسياسات ونسب النمو وانخفاض التضخم، فالأغلبية من الناس لا تقرأ مثل هذه الأخبار في الصحف ولا تستمع لها من التلفاز والإذاعة بل أنها تعتبر أن برامجها وصفحاتها في الصحف هي مجرد مساحات فقيرة ومضجرة لاستقطاب الإعلان ولاسترضاء بعض التكنقراط المستأجرين. بل أن بعض الصحفيين يتجهون لمثل هذه المساحات غير المقروءة لأنهم باختصار لم ينجحوا في الصحافة السياسية والرياضية والفنية وصحافة المنوعات إلا من رحم ربي. والإنسان العربي أيضاً يعتبر أن الفتاوي التي تخرج من تحت ألسنة وزراء الأوقاف العرب ومن إمام المسجد الذي يصلي فيه الرسميون ولجنة فتوى الدولة هي مجرد حصص في الدين المكرورة والمتفق عليها، صنعت خصيصاً لتدغدغ مسامع الجماهير ولا تزلزل الأرض تحت أقدام السلاطين ويطالبوننا بالعذر لهم والإعتذار وهم يصادقون المستعمر وهم يشاركونه وهم يقاسمونه وهم يمسحون ويسمحون لأحذيته أن تمشي فوق مناكبهم ونكباتنا.
وليس هذا الاكتشاف القارص هو من حق الطبقة الوسطى أو البرجوازية أو ظرفاء التكنوقراط فقط .. بل أنه اكتشاف معرفي يعلمه كل الدهماء والعامة والمسحوقين.
ليتكم رأيتموهم كيف يحسبون تكاليف الطوابق والحديقة والسيارات لمسؤول لا يتجاوز راتبه الشهري الخمسين ألف جنيه.
ليتكم شاهدتم كيف يؤرخون لآخر وظيفة له في الخدمة العامة قبل أن ينتمي للحزب والتشكيل الوزاري، وليتكم رأيتم كيف يحسبون قيمة الورثة لوالده الذي ترك 220 متراً في الدرجة الثالثة من الجالوص وحتى هذه يقتسمها معه 9 أخوة وأخوات وزوجة أب صارت في السنوات الأخيرة أرملة. وليتكم شاهدتم تضريبات دخل حاجة دار السرور والدته ست الطعمية ووالده سالم الدقاق، وليتكم شاهدتم كيف يسخرون في صخب من أين لك هذا؟ فأن كان هذا رأي أهل الدم فيه فكيف يكون رأي أهل الدعم؟.
إن الإنسان العربي أصبح يعي وبصراحة أن أكبر الدعاة للوحدة العربية في الحقيقة هم أكبر أعداء الوحدة العربية بل هم الأنصار الأوفياء للتشرذم والقطرية والانكفاء والشعوبية والشتات والقبلية المقيتة. كما أنه أصبح يعي أن أكبر الدعاة للثوابت والالتزامات وماضي هذه الأمة التليد هم في الحقيقة أكبر أعداء الاسلام بالقول المسطح الفطير وبالقول الكذوب وبالقدوة الطالحة.. وبالتسفح المشاهد دون عليائه وسموقه وفي هذا للجماهير طُرف ومُلح ونوادر تكاد تمتلئ بها أضابير المكتبات ودور الوثائق..
الجماهير العربية أصبحت لا تصدق الناطقين الرسميين باسم الجيوش من لدن أحمد سعيد حتى الصحاف!! وأصبحت لا تصدق الجنرالات الهواء من لدن عبد الحكيم عامر حتى ماهر التكريتي.. باختصار فإن الجماهير العربية تعتبر أن هذه الأنظمة شيء من اختراع أنفسها وليس لها أية صلة بالأرض أو بالناس ولذلك فإنها تقول ولا يصدقها الناس وتفعل ولا يهتم لها الناس وتتألم ولا يألم لها الناس وتفرح ولا تفتر ثغور الجماهير ولو لمرة واحدة لنكاتها البايخة وظرفها المصنوع..
كل الذي تفعله أنها تقرأ التأريخ في نسخته الزائفة، وتنتظر في دهاليزه فيطل عليهم دون إستئذان عمر الفاروق أو محمد الفاتح أو صلاح الدين فيقلبون الصفحة أو يطالبون وزراء التربية بتغيير المقررات. ولعل من المآسي المشهودة أن أفعال السلطة العربية والإسلامية ومرجعيتها المصنوعة قد جعلت الجماهير المعاصرة لا علاقة لها أبداً بالحاضر لأنها أكتشفت أن حاضرها العقيم هذا بلا مفكرين ولا مجتهدين ولا أصحاب إضافة، والشاهد يرى دليلاً على ذلك أن أكثر الكتب مبيعاً الآن بمعارض الكتاب (البداية والنهاية) لابن كثير و(تأريخ الطبري) و(العواصم من القواصم) و(ديوان النقائض) و(مقاتل الطالبيين) و(نزهة المجالس) و(مدائح ابن الفارض) و(الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني) و(البخلاء للجاحظ) و(المستطرف في كل فن مستظرف) للأبشيهي..
وقد فعلت الجماهير ذلك لأنها يئست من الحكمة والتحكيم والشرعية والمشروع. وأصبحت تبحث عن حكماً بينها وبين الحكومات يمنحها الحد الأدني من المستقبل، فقد أصبحوا يعتقدون أن كل هذه المرجعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعدلية معطوبة أو مصادرة أو مشتراة.. وبرغم تشدق الحكومات ونخبها بجملة من الحقائق الكلية والشعارات المطلقة إلا أن أيمانها بهذه الحقائق والكليات والشعارات محاصر بنسبة دنيا من الإعتقاد والتنفيذ وإن أية محاولة للضغط عليها من أجل اختبار صدقيتها يضعها في المحك أمام امتيازاتها البعيدة فتعلن المعركة على الجميع سياطاً ومعتقلات..
وقد حكى لي أحد الظرفاء السودانيين حكاية تماثل هذه المشهدية. فقد قالوا إن قرية سودانية غالب أهلها من الفلاحين نزل عليهم منذ سنوات رجل غريب واسع الثراء بلا أهل ولا زوجة ولا يملك في هذه الفانية من صحبة إلا كلبه الوفيّ أعطاه قلبه ووقته..
وكان الغريب على ثرائه العريض واسع الكرم والعطاء لا يرد محتاجاً ولا صاحب حاجة وقد أحبه الناس رغم أن لا أحد أكتشفه أو قرأ بطاقته الشخصية، وعندما ملأوا الآفاق بحبه أحبوا كلبه.. وكانوا دائماً يتساءلون أين هي المناسبة المستحيلة القادمة في حياة الرجل التي يمكنها أن تأتي ليردوا بعض جماله وجمائله فليس للرجل أخوة ولا أهل ولا زوجة ولا أطفال ولا صبيان وهي صلات عقيمة ومقطوعة ولا تشي ولا تنبئ بأي فرح أو كره في حياة الرجل يرد الصنيع بصنيع رديف له أو ما يفيض..
وقد جاءت المناسبة من حيث لا يحتسبون فقد مات الكلب الوفي.. فأوحى لهم خبيث القرية أن يغتنموا هذه المناسبة الوحيدة والتي لا ثاني بعدها إلا موت صاحب الكلب..
ذهبوا إليه فرادى وجماعات وأقنعوه بأن يقيم مأتماً مهيباً للكلب الوفي وللحقيقة فإن الرجل وجل من الأمر وتهيبه وأنكره ولكنه تحت إلحاحهم وافق على مضض فأقام أهل القرية السرادقات وأقاموا ولائم الإكرام البازخة لكل المعزين وفي نهاية المأتم حملوا له من حر مالهم ثلاثة جوالات من النقد كبير الفئات وهي مساعدتهم في العزاء الكبير. ومضى القوم وهم يحسبون أنهم أنزلوا من على كواهلهم أمانة عظيمة وردوا ديناً ومعروفاً واجب السداد بهذه الجوالات (النقدية)..
ولكن سيادة العمدة المرجعية لكل هذا الذي يدور ظل يراقب الحدث بغضب ويدرس ما يدور في غيظ ملأ الآفاق خاصة أن لا أحد منهم إستأذنه في الذي يفعلون، وبعد أن طوى الناس الخيمة والسرادق ومواعين الخدمة استدعى العمدة الغريب الثري وصاحب الكلب الفقيد وحدثه أولاً بالفتوى وعن البدعة التي إفترعها وعن الضلال الذي ركبه حتى أقام مأتماً وعزاء لكلب..
وأتى ما بعد الفتوى لسبل كسب العيش فهاجمه بقسوة على قبول ثلاثة جوالات من أموال المساكين وأخرج أخيراً عصاه الغليظة وضربه على كتفه مهدداً بالمحاكمة والسجن وأبقى العصا طويلاً على الكتف المهيض.. رفع الضحية المطرقة رأسه وقال للعمدة المرجعية في إستكانة وأدب وذكاء أنت تعلم يا سيادة العمدة إحساني للناس وتعلم وحدتي وغربتي وتعلم أيضاً اجتهاد العامة في رد الجميل.. وأنا أقسم بالله العظيم وكتابه الكريم قد أسررت في نفسي منذ أن وصلت جوالات المال الثلاثة أن أقسمها بجوال لضريح الكلب وجوال لسداد خسارة المأتم وجوال يحمل لسيادة العمدة.. وما أن أكمل الجملة الأخيرة حتى إفترت أسارير العمدة فرحاً وأسقط العصا وقال بصوت راعد وخاشع في آن واحد: ما دمت قد قلت هذا.. الفاتحة ورفع الرجلان فاتحة الكتاب وقرأ كل واحد في سره الإخلاص إحدى عشرة مرة وسألوا الرحمة للفقيد.
(والمعني وأضح).