في ذكرى المحجوب .. فارس السياسة والقضاء والهندسة والصحافة والأدب

في ذكرى المحجوب .. فارس السياسة والقضاء والهندسة والصحافة والأدب
بقلم: الأستاذ عمر حسن الطيب
مقدمة لا بد منها:
طلبتُ، راجيًا، من أستاذنا عمر حسن الطيب، ابن عائلة وشجرة السادة الهاشماب، هذه الشجرة الطيبة التي أهدت للشعب السوداني باقة مباركة من العلماء، والقضاة، والمجاهدين، والساسة، والمفكرين، والقيادات العسكرية الباسلة، والشعراء الكبار، والنجوم الساطعة في رحاب الإدارة، والخدمة العامة، والدبلوماسية. وإن أردنا الاسترسال في تعداد مناقب هؤلاء الرجال، فإن الحديث يطول، والسيرة تحتاج إلى كتب وأسفار.
طلبتُ من أستاذنا عمر حسن أن يكتب لنا عن الزعيم والقيادي الذي افتخرت به ساحات القضاء، والهندسة، والسياسة، والأدب: محمد أحمد المحجوب، البرلماني، والوزير، ورئيس الوزراء، وأرفع من كل ذلك، أنه كان أحد الذين رفعوا علم السودان الحر المستقل في ذلك اليوم المهيب من عام 1956.
وقد استجاب أستاذنا وقدوتنا عمر حسن، فكتب لنا سطورًا عميقة ومعبّرة عن الرجل، رغم علمي بأنه محاصر بالداء، والأعداء، والغربة القسرية عن أم درمان الحبيبة.
ما زلت أذكر، ونحن طلاب بمدرسة أم درمان الأهلية الثانوية، كيف كنا نتحلّق حول حصته في مادة التاريخ، وهو يفيض بمعلومات ثرية، وتحليل وافٍ، علمي وعقلاني، عن تاريخ أوروبا الحديث، وعن التاريخ الإسلامي في عصوره الزاهية، وعن تاريخ السودان الحديث بكل أسراره وتعقيداته. كانت حصصًا نرجو ألا تنقضي، ونتمنى أن لا يصمت الرجل.
وعلى كثرة المعلمين الذين مرّوا بحياتنا في شتى المراحل، من الأساس إلى الجامعة، تظل سيرة الأستاذ عمر حسن الطيب باقية في قلوب وعقول تلاميذه. فما إن يُذكر الوفاء، والعلم، والتواضع، وحب الآخرين، إلا وتأتي سيرته لتعطر النفوس وتبهج الذاكرة.
تظل كتابات أستاذنا عمر المنشورة في مجال التاريخ، إضاءةً وإضافةً لحركة التوثيق في بلادنا، وأرجو ألا يتوقف، فإن الأيام، وإن استعصت، تظل عاجزة عن فرض الاستقالة على هذا القلم السيّال، وهذا الفكر الناقد المتدفق.
شكرًا نبيلاً لفتى أم درمان، أستاذنا عمر، على هذه الاستجابة النبيلة، وهو يكتب عن المحجوب بكل هذا الحب في هذه الأسطر الوافية، ولا يعرف قدر الكرام إلا الكرام.
سيرة موجزة عن محمد أحمد المحجوب
وُلِد السيد محمد أحمد المحجوب في 17 مايو 1908 بمدينة الدويم بالنيل الأبيض. والدته هي السيدة فاطمة عبد الحليم، ابنة أمير المهدية عبد الحليم مساعد هاشم الهاشماب.
تلقى تعليمه الأول في الخلوة والكتاب بمدينة الدويم، ثم انتقل إلى أم درمان في كنف خاله محمد عبد الحليم مساعد هاشم (والد الدكتور عبد الحليم محمد)، حيث درس في مدرسة أم درمان الوسطى.
التحق بكلية الهندسة، وتخرج في عام 1929 مهندسًا من كلية غوردون التذكارية (جامعة الخرطوم لاحقًا). وفي عام 1936، ترك العمل الهندسي، والتحق بكلية القانون، وتخرج منها عام 1938، ثم التحق بالقضاء السوداني، وعمل به حتى عام 1946، حين تركه واتجه إلى ممارسة مهنة المحاماة.
بعد استقلال السودان، بدأ نشاطه السياسي عبر حزب الأمة، وتقلد العديد من المناصب العليا في الدولة، منها:
• زعيم المعارضة
• وزير الخارجية
• رئيس وزراء مرتين خلال الحقبة الديمقراطية الثانية
كان محبًّا للشعر، مولعًا بالأدب والثقافة، وكتب في مجلة النهضة ومجلة الفجر لصديقه عرفات عبد الله، وله عدد من المؤلفات الأدبية والفكرية والتاريخية، منها:
1. ديوان: قصة قلب – 1961
2. ديوان: قلب وتجارب – 1964
3. ديوان: الفردوس المفقود – 1969
4. ديوان: مسبحتي ودُنياي – 1972
5. كتاب: الحركة الفكرية في السودان: إلى أين تتجه؟ – 1941
6. كتاب: الحكومة المحلية في السودان – 1945
7. كتاب: موت دنيا (بالاشتراك مع الدكتور عبد الحليم محمد) – 1946
8. كتاب: نحو الغد – 1970
9. كتاب: الديمقراطية في الميزان – 1974 (بالعربية والإنجليزية)
10. Democracy on Trial – 1974
بعد انقلاب مايو 1969، أجبر على المنفى الاختياري في بريطانيا، قبل أن يعود إلى السودان في عام 1976.
توفي في الخرطوم، إلى رحمة الله تعالى، يوم الثلاثاء 23 يونيو 1976.
المحجوب… القامة والمعنى
والده هو محجوب محمد أحمد علي الشوبلي علي مدني “الشيخ” بسبار زين الدين عون (البسابير)، ووالدته فاطمة عبد الحليم مساعد هاشم، ابنة بهجة صغيرون. أما زوجته فهي ابنة خاله، السيدة سارة محمد عبد الحليم مساعد هاشم. أبناؤه هم: سيد، سامي، أنور، وفيصل، وبناته: بهجة، سميرة، سلوى، وسهام.
ما زالت ذاكرة السودانيين تحتفظ بمواقفه، ومقالاته، وخطاباته البرلمانية الخالدة. ومن أشهرها خطبته التي ألقاها وهو يعاتب من صوّتوا ضده من حزبه، ما أدى إلى فقدانه منصب رئاسة الوزراء. حفظ المئات من محبيه أبياته التي قال فيها:
إنّ الأُلى قد كنت أرمي دونهم
غلّوا يديّ وحطّموا أقواسي
واستبدلوا سيفي الجراز بأسيوفٍ
خُشبٍ، وباعوا عسجدي بنحاسِ
والطلُّ غير الماسِ، إلا أنهم
خُدعوا برقرقة الندى عن ماسي
وكان الناس يذكرون أيضًا استقالته المدوّية مع زميليه أحمد يوسف هاشم وصالح عبد القادر من الجمعية التشريعية، عندما رفعت الجماهير شعار الأزهري: “إننا نرفض الجمعية التأسيسية حتى ولو جاءت مبرأة من كل عيب”. وقد أطلقت عليهم الصحافة آنذاك لقب “الفرسان الثلاثة”، على الرغم من أنهم كانوا من جبهة الاستقلاليين، الذين كانوا يُحسبون على توجّه موالٍ للبريطانيين في الجمعية.
ومن أبرز مواقفه السياسية والتاريخية، دوره كعرّاب وفارس لاءات الخرطوم الثلاث، بالشراكة مع صديقه الزعيم إسماعيل الأزهري. استطاعا، بحنكة وتجربة، أن يُنجزا الصلح التاريخي الشهير بين المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، والزعيم الراحل جمال عبد الناصر، بعد طول خصومة. وقد مهد هذا الاتفاق للوحدة العربية التي كانت مقدّمة لانتصار الشعب المصري في حرب أكتوبر 1973.
كان مكتب المحجوب للمحاماة ملتقى للفكر والثقافة والوطنية، مشرعًا أمام جميع الاتجاهات، فقد كان المحجوب فوق العصبيات والجهويات والانتماءات الضيقة. ومن مكتبه تخرج: الأستاذ الشاعر والوزير دفع الله الحاج يوسف، السياسي اليساري أحمد سليمان وزير أكتوبر وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وأحد قادة الجبهة القومية الإسلامية بعد ما وصفه بـ”توبته” في كتابه “مشيناها خطى كتبت علينا…”, والقانوني العالمي التجاني الكارب، وغيرهم من أهل القانون والاستشارات والتوثيق.
رغم الاختلافات الحزبية، كانت للمحجوب صداقات صادقة مع شخصيات بارزة مثل: الزعيم الاتحادي مبارك زروق، أحمد السيد حمد، عقيل أحمد عقيل نقيب المحامين، ومن حزبه: عبد الرحمن علي طه، والسفير الصحفي يوسف مصطفى التني.
كانت له أيضًا علاقة حميمة مع الشاعر محمد المهدي المجذوب، الذي كان ضيفًا دائمًا على مجلسه الثقافي وندوته الأسبوعية. كما كان له ولع خاص بصوت الفنان حسن عطية، الذي غنّى له رائعته “القمر الأخضر”.
ومن أشهر قصائده تلك التي رثى بها الإمام عبد الرحمن المهدي:
العيدُ وافى، فأين البشرُ والطربُ؟
والناسُ تسأل: أين الصارمُ الذرِبُ؟
الواهبُ المال لا مَنٌّ يكدره
والصادقُ الوعد، لا مينٌ ولا كذبُ
بكى المصلّى جبينُ الأنبياء به
وفارقَ المنبرَ الصناجةُ الأُرُبُ
وخالطَ الناسَ يُتمٌ بعد فرقته
ففاتهم منه، يوم النازلات، أبُ
جئنا إلى الدار نهديها تحيتنا
كالسالفات، فما للدار تنتحبُ؟
ومن المهم أن تُنشر خطبته الشهيرة التي ألقاها في الأمم المتحدة، حين اختارته المجموعة العربية لإلقاء بيانها باللغة الإنجليزية أمام الجمعية العامة. كانت كلمته ملهمة، صادقة، وذات بيان ساحر في الشكل والمضمون.
ومن روائعه الشعرية التي نالت تداولًا واسعًا قصيدته “الفردوس المفقود”، التي كتبها بعد أن زار الأندلس، والتقى مجموعة من الشابات الإسبانيات، فلفت انتباهه جمال الوجوه العربية، يقابلها لسان أجنبي. كانت تلك المقابلة مصدر إلهام لحزنٍ دفين على الأندلس الضائعة، وقضية العرب المركزية، فلسطين.
رحم الله المحجوب، فقد كان فارسًا في السياسة، والقضاء، والعدالة، والهندسة، والوزارة، والدبلوماسية، والصحافة، والمجتمع. لقد كان أمةً، وألف رجل في عقل وقلب رجل واحد.
نداء ختامي:
ندعو أبناءه، وأحفاده، وتلامذته، وكل عارفي فضله، إلى جمع ونشر مجموعته الكاملة في الأدب، والثقافة، والسياسة، والصحافة، والمذكرات. وقد علمنا أنه ترك أوراقًا ومذكرات خاصة لم تُنشر بعد. دعاؤنا من القلب أن لا تكون هذه الوثائق قد احترقت في الخرطوم؛ فالمباني تُستعاد، لكن المعاني إن ضاعت، لا تُستعاد.
الفردوس المفقود
نزلتُ شَطكِ، بعدَ البينِ ولهانا
فذقتُ فيكِ من التبريحِ ألوانا
وسِرتُ فيكِ، غريباً ضلَّ سامرُهُ
داراً وشوْقاً وأحباباً وإخوانا
فلا اللسانُ لسانُ العُرْب نَعْرِفُهُ
ولا الزمانُ كما كنّا وما كانا
ولا الخمائلُ تُشْجينا بلابِلُها
ولا النخيلُ، سقاهُ الطَّلُّ، يلقانا
ولا المساجدُ يسعى في مآذِنِها
مع العشيّاتِ صوتُ اللهِ رَيّانا
****
كم فارسٍ فيكِ أوْفى المجدَ شرعتَهُ
وأوردَ الخيلَ ودياناً وشطآنا
وشاد للعُرْبِ أمجاداً مؤثّلةً
دانتْ لسطوتِهِ الدنيا وما دَانا
وهَلْهلَ الشعرَ، زفزافاً مقَاطِعُهُ
وفجّرَ الروضَ: أطيافاً وألحانا
يسعى إلى اللهِ في محرابِهِ وَرِعاً
وللجمالِ يَمدُّ الروحَ قُربانا
لمَ يَبقَ منكِ: سوى ذكرى تُؤرّقُنا
وغيرُ دارِ هوىً أصْغتْ لنجوانا
****
أكادُ أسمعُ فيها همسَ واجفةٍ
من الرقيبِ، تَمنّى طيبَ لُقيانا
اللهُ أكبرُ هذا الحسنُ أعرِفُهُ
ريّانَ يضحكُ أعطافاً وأجفانا
أثار فِيَّ شُجوناً، كنتُ أكتمُها
عَفّاً وأذكرُ وادي النيل هَيْمانا
فللعيونِ جمالٌ سِحرُهُ قدَرٌ
وللقدودِ إباءٌ يفضحُ البانا
فتلك دَعْدٌ، سوادُ الشَعْرِ كلَّلها
أختي: لقيتُكِ بَعْدَ الهجرِ أزْمانا
أختي لقيتُكِ، لكنْ أيْنَ سامُرنا
في السالفاتِ؟ فهذا البعدُ أشقانا
أختي لقيتُ: ولكنْ ليس تَعْرِفُني
فقد تباعدَ، بعد القُربِ حيَّانا
طُفنا بقرطبةَ الفيحاءَ نَسْألها
عن الجدودِ.. وعن آثارِ مَرْوانا
عن المساجد، قد طالت منائرُها
تُعانق السُحبَ تسبيحاً وعرفانا
وعن ملاعبَ كانتْ للهوى قُدُساً
وعن مسارحِ حُسنٍ كُنَّ بسْتانا
وعن حبيبٍ، يزِينُ التاجَ مِفْرقُهُ
والعِقدُ جال على النّهدين ظمآنا
أبو الوليد تَغَنّى في مرابِعِها
وأجَّجَ الشَوقَ: نيراناً وأشْجانا
لم يُنْسِه السجنُ أعطافاً مُرنَّحةً
ولا حبيباً بخمرِ الدَّلِّ نَشْوانا
فما تَغرّبَ، إلاّ عن ديارهمُ
والقلبُ ظلَّ بذاك الحبِّ ولهانا
فكم تَذكّرَ أيّامَ الهوى شَرِقاً
وكم تَذكّرَ: أعطافاً وأردانا
قد هاجَ منه هوى ولادةٍ شَجَناً
بَرْحاً وشوْقاً، وتغريداً وتَحْنانا
فأسْمَعَ الكونَ شِعْراً بالهوى عَطِراً
ولقّنَ الطيرَ شكواه فأشجانا
وعاشَ للحُسنِ يرعى الحسنَ في وَلَهٍ
وعاش للمجدِ يبني المجدَ ألوانا
تلكَ السماواتُ كُنّاها نُجمّلُها
بالحُبِّ حيناً وبالعلياء أحيانا
فرْدَوسُ مجدٍ أضاعَ الخَلْفُ رَوْعَتَهُ
من بعدِ ما كانَ للإسلامِ عنوانا
****
أبا الوليدِ أعِنِّي ضاعَ تالدُنا
وقد تَناوحَ أحجاراً وجُدرانا
هذي فلسطينُ كادتْ، والوغى دولٌ
تكونُ أندلساً أخرى وأحزانا
كنّا سُراةً تُخيف الكونَ وحدتُنا
واليومَ صرْنا لأهلِ الشركِ عُبدانا
نغدو على الذلِّ، أحزاباً مُفرَّقةً
ونحن كنّا لحزب اللهِ فرسانا
رماحُنا في جبين الشمسِ مُشرَعةٌ
والأرضُ كانت لخيلِ العُرب ميدانا
أبا الوليدِ، عَقَدْنا العزمَ أنّ لنا
في غَمرةِ الثأرِ ميعاداً وبرهانا
الجرحُ وحّدَنا، والثأرُ جَمّعنا
للنصر فيه إراداتٍ ووجدانا
لهفي على «القدسِ» في البأساء داميةً
نفديكِ يا قدسُ أرواحاً وأبدانا
سنجعل الأرضَ بركاناً نُفجّرهُ
في وجه باغٍ يراه اللهُ شيطانا
ويُنتسى العارُ في رأد الضحى فَنَرى
أنَّ العروبةَ تبني مجدَها الآنا