مدخل إلى قائمة الشرف الوطني

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
مدخل إلى قائمة الشرف الوطني
وعلى شرف أهل السودان، وعزّتهم وكرمهم وإبائهم، إلا أن فيهم بعض النقائص التي يجب أن نتصدى لها بعد النكبة، بالاعتراف والنقد الذاتي. ومنها أنهم لا يعرفون قدر كبارهم من القادة والمفكرين والمؤسسين، وأهل الكرم والشجاعة والصلاح والزهد، وقائمة مكارم الأخلاق في النساء والرجال السودانيين تطول.
ومن هذه النقائص أننا – كما أسلفنا – لا نعترف بجدارة هؤلاء الكبار في شتى المجالات إلا بعد رحيلهم. وحتى عند الرحيل، فإننا نذكر مآثرهم بأيام، ثم ننساهم.
فلا نحن نكرّم، ولا نحن نعتبر، ولا نتأسى.
ولنا عبارة مشهورة نتداولها دون فحص حين نريد أن نثني على بعض أفعال الرجال الأحياء، فنقول بدون وعي:
“إن شاء الله يوم شكرك ما يجي!”
مع أن الشكر مستوجب في الحياة وبعد الممات؛ ففي الحياة يغري الآخرين بالتمثل والتقليد للخير، وعند الممات يستوجب الدعاء بالرحمة والمغفرة والقبول.
ومن الحكايات التي أذكرها في هذا المقام: أن أستاذنا الشاعر والفقيه، وعالم العربية، والعارف بخبايا المجتمع السوداني الأستاذ عبد الله الشيخ البشير، قدّم لنا محاضرة قيّمة في ندوة الأستاذ اللغوي والشاعر فراج الطيب، وكان عنوانها:
“أن المعاصرة حجاب”.
فالكثير من العظماء الذين نعاصرهم ونلتقي بهم، ونشاهد قوتهم وضعفهم وممارستهم للحياة، كثيرًا ما نتخطاهم في الذكر والتقدير والتبجيل، مع أنهم يستحقون أكثر من ذلك.
وفي أحيان كثيرة، نستمتع بفقرهم وعجزهم وكدرهم ومعافرتهم للحياة القاسية، كأنهم لم يُجمّلوا حياتنا يومًا بجميل الأقوال والأفعال.
وقد شهدت عيانًا جماعة من المبدعين والشعراء، كانوا في آخر أيامهم أقرب إلى مراتب التسوّل، وصفات “الشحادين”. فقد كسرهم الدهر، حتى ما عادوا من أهل الصبر والتعفف، وقد كانوا في شبابهم أهل علم وكرم وسداد وشهرة وعفة.
وقد صدق أمير الشعراء حين قال:
حرصي عليك هوى، ومَن يُحرزْ ثمينًا يَبخلِ
والشُّح تُحدِثُه الضرورة في الجواد المُجزِلِ
وقد عبس الزمان بالكثير من أهل الفضل والجود والإنفاق، فاتهموا ظلمًا بالشح، وهم في مقام التعفف.
(والشُّح تُحدِثُه الضرورة في الجواد المُجزِلِ).
وفي آخر المحاضرة القيّمة، علّق عليها المعلم والصحفي والشاعر والمؤلف والمسرحي الكبير خالد أبو الروس، وذكر حكايته وصحبته مع الشاعر الراحل، الملهم، والعبقري التجاني يوسف بشير.
قال أبو الروس: “كان التجاني صبيًّا ألمعيًّا، وصاحب رؤية ناقدة لما نقرأ في الدين والأدب والحياة. قال لي يومًا: أنت يا خالد، من عبيد الشعر. وإني لأثق في ذائقتك الفنية والأدبية، إطراءً ونقدًا .
وبعد هذه الجملة التي أطربتني كثيرًا، أهداني ديوان شعره الذي اكتمل، وقد وثقه بخطه الجميل (إشراقة). فحملته إلى المنزل غير مبالٍ، وليس بي اهتمام، قلّبته وقرأت بعض قصائده، ولم يستوقفني شيء. لا أقول حسدًا، بل غبطة غير حميدة تصيب أهل السودان أو بعضهم.
دفعت إليه بالديوان غير المطبوع في اليوم التالي، وقلت بسخرية:
(يا تجاني، هذه ليست إشراقة، هذه عشراقة!.) فضحك الزملاء على تعليقي، ودسّ التجاني ديوانه في حقيبته، وطوى حزنه بلا تعليق.
ذهبت أيام الصبا، ورحل التجاني بداء السل الذي اغتال الكثير من المبدعين في بلادي. وبعد ربع قرن، قرأت الديوان المطبوع، فكان أجمل ما قرأته من أشعار، بما فيها من سحر في الأفكار والديباجة، والغموض المُفصح، وطلاوة الرؤى والقافية، وثمين الأفكار والمعاني، وصحيح – بل صحيح جدًا – إن المعاصرة حجاب.”
وقد حكى صديق الاثنين، الشاعر محمد عبد القادر كرف، أحد تلاميذ شيخ الطيب السراج، بأنه حمل يومًا للشيخ الطيب – صاحب العلم الفياض في اللغة والشعر والفقه والأدب – إحدى قصائد التجاني يوسف بشير، وكان فيها الكثير من الستر والغموض.
قرأتها عليه مرة، وطلب مني أن أقرأها ثانية، فصاح بصوت جاسر ومرعب حتى سقطت الورقة من يدي: “ما هذا الشعر الذي لا يفهمه شيخ الطيب السراج؟!”
ومن نافلة القول أن ما بقي في ذاكرتنا من حكايات التراث الإسلامي وسيرة صحابة رسول الله ﷺ، قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب، سيّد الشهداء، والذي دخل الإسلام من باب النخوة.
فقد آذى أبو جهل المصطفى ﷺ بكلمات قاسيات، وحين أخبر حمزة بذلك – وكان على غير الإسلام – ذهب إلى أبي جهل، وكان متسيِّدًا قومه، فضربه حتى شج وجهه وسال دمه، وقال له:
“أتسبّ محمدًا، وأنا على دينه؟!”
ومنذ ذلك اليوم أشرق فجر الإسلام بحمزة، وبعده بثلاثة أيام أسلم عمر، فاكتمَل بذلك حبل الإسلام المتين.
وقد روى ابن عباس – رضي الله عنهما – رواية تحكي عن فُحولة الفارس حمزة، تلك الفُحولة التي قادته إلى الإسلام، وعن جسارة فاطمة بنت الخطاب، شقيقة عمر، التي تأبّت – رغم دمها المسكوب – أن يقرأ القرآن حتى يغتسل. فكان هذا الدم الطاهر، وهذه الشجاعة الخالدة، مدخلاً لإسلام الفاروق.
وتقول رواية ابن عباس التي نوردها تبركًا واعتبارًا: “سألت عمر – رضي الله عنه –: لأي شيء سُميت الفاروق؟ فقال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، فخرجت إلى المسجد، فأسرع أبو جهل إلى النبي ﷺ يسبّه، فأُخبر حمزة، فأخذ قوسه وجاء إلى المسجد إلى حلقة قريش التي فيها أبو جهل، فاتّكأ على قوسه مقابل أبي جهل، فنظر إليه، فعرف الشر في وجهه.
فقال: ما لك يا أبا عمارة؟ فرفع القوس، فضرب بها أخدعيه فقطعه، فسالت الدماء، فأصلحت ذلك قريش مخافة الشر.
وكان رسول الله ﷺ مختفيًا في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، فانطلق حمزة فأسلم.
وخرجت بعده بثلاثة أيام، فإذا فلان المخزومي، فقلت له: أرغبتَ عن دين آبائك واتبعت دين محمد؟ فقال: إن فعلت، فقد فعله من هو أعظم عليك حقًا مني.
قلت: ومن هو؟ قال: أختك وختنك. فانطلقت فوجدت همهمة، فدخلت، فقلت: ما هذا؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني، فضربته وأدميته، فقامت إلي أختي، فأخذت برأسي، وقالت: قد كان ذلك على رغم أنفك .
فاستحييت حين رأيت الدماء، فجلست، وقلت: أروني هذا الكتاب.
فقالت: إنه لا يمسه إلا المطهرون.
فقمت فاغتسلت، فأخرجوا إليّ صحيفة فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم)
فقلت: أسماء طيبة طاهرة: (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)… إلى قوله: (له الأسماء الحسنى). فتعظمت في صدري، وقلت: من هذا فرت قريش؟!
فأسلمت، وقلت: أين رسول الله ﷺ؟
قالت: إنه في دار الأرقم.
فأتيت فضربت الباب، فاستجمع القوم.
فقال لهم حمزة: ما لكم؟
قالوا: عمر.
قال: عمر؟! افتحوا له الباب، فإن أقبل، قبلنا منه، وإن أدبر، قتلناه.
فسمع رسول الله ﷺ، فخرج، فتشهّد عمر، فكبّر أهل الدار تكبيرةً سمعها أهل مكة.
قلت: يا رسول الله، ألسنا على الحق؟
قال: بلى.
قلت: ففيمَ الاختفاء؟
فخرجنا صفّين: أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر، حتى دخلنا المسجد.
فنظرت قريش إليّ وإلى حمزة، فأصابهم كآبة شديدة، فسمّاني رسول الله ﷺ الفاروق يومئذ؛ لأنه فَرَق بين الحق والباطل.”
وأخيرًا، فإني قد ترافعت بكل ذلك: من حكايات “المعاصرة حجاب”، ومحاضرة شيخ شعراء السودان، وإشراقة التجاني، وجسارة حمزة، وبسالة فاطمة بنت الخطاب، وتفريق عمر بين الحق والباطل حتى سُمّي بالفاروق، لأجد بذلك سبيلًا لتوثيق قائمة من القادة العسكريين، والشهداء، وأهل الوفاء والبذل والكرم، والمبدعين، والعلماء، والصحفيين، والشعراء من أهل بلادنا الذين وقفوا أيام العُسرة والزلزلة مع الشرعية، ومع الجيش، ومع منظومة القيم الوحدوية التي حفظت للسودان وجهه الحقيقي، وكسرت الهزيمة، وشتّتت شمل العملاء واللصوص والمرتزقة وحُثالة الحدود.
ولذا، فقد قررت “ألوان” أن تنشر صفحات متتالية تحت عنوان: “قائمة الشرف الوطني” توثق فيها للرجال والنساء الذين وقفوا كالرماح في ليل الوغى، وكالنخيل في أيام المسغبة، وكالماء السلسبيل حين تضمر الآبار وتجف الصحارى، ويستعصي الغيث، ويعمّ المحل والجدب.
إنها قوائم لرجال ونساء، حق لهم أن يُشطبوا ويُلغَوا من النسيان إلى الأبد.
إن “المعاصرة حجاب” – والصحيح أن المعاصرة مدح وثناء وفخر وقلادة على أعناق الكبار في زمان الزلزلة – مما يغري بالاقتداء، والتقليد الحميد، والتأسّي النبيل، حتى تعود تلك المعاني التي ظنّت العصابة الإرهابية أنها دثّرتها وقبرتها في التراب إلى الأبد.
ولكن هيهات، هيهات…
فـهذه أمة لن تُهزم،
وهذا شعب لن يُقهر،
وهذه قيم لن تموت.