ودارت الأيام

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
ودارت الأيام
(1)
* تستوقفني رسائل ومهاتفات الهندي الأم درماني القح شاندولال رانجي الذي يكتب في الأدب والثقافة العربية والاسلامية والسودانية. ما يصعب على الكثيرين من أدعياء الأدب والثقافة. وغالباً ما أجد على الإيميل ورسائله كتاباته المباشرة الأنيقة معقباً أو مثنياً أو معارضاً أو ناقداً أو مضيفاً.
ومنها: (أخي الأستاذ حسين خوجلي السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.. أولاً أرجو أن تكون بصحة وعافية ونتضرع لله تعالى أن يحفظ السودان الحبيب ويبعد عنه المصائب والأعداء). (وما أغلاها من أمنية ودعاء وهما يخرجان من هندي أم درماني احتضنه السودان، فصار منه وصار له.. فكيف بالله بأبنائه المتشاكسين ليل نهار).
لقد سررت وتمتعت بالجزء القليل من قصيدة السموأل بن عادياء التي أتحفتنا بها في ولألوان كلمة (أحداث وناس وحكايات). وكم كنت أتمنى أن تسطر لنا تلك القصيدة الرائعة حتى تكون معلماً ومرجعاً لأبنائنا الشباب، وأعطي نفسي الجرأة عليك وعلى السموأل لأضيف بعض الأبيات مواصلاً من ذات المكان الذي انتهت به الأبيات:
وما ضرّ من كانت بقاياه مثلنا
شَباباً تَجلى لِلعُلا وَكُهولُ
لَنا جَبَلٌ يَحَبلُّهُ مَن نُجيرُهُ
مَنيعٌ يَرُدُّ الطَرفَ وَهُوَ كَليلُ
رَسا أَصلُهُ تَحتَ الثَرى
وَسَما بِهِ للنَجمِ ضرعٌ لا يزالُ طَويلُ
عزيزي شاندولال ابن حي الشهداء بأم درمان، لقد كنا نستبدل مفردة (جبل) بجيل فأيهما أوقع؟ أبشرك أخي شاندولال أن أحد أسفاري التي أهدد بها (قصائد من دفاتري) وهي استراحات من قريض الكبار باستهلالاته وذكرياته لنهديها لهذا الجيل.. في طريقها لأعين الأحباء ولا تسألني متى- لا تسل عني ليالي فقد بتنا حطاما.
وأخيراً لم يبق من بقايا المداد إلا عبارة وهجم الغلاة ومطاريد الشتات المرتزقة والعصابات على أم درمان فبددوا العرب والعجم والقبط والهنود المباني والمعاني وكل ما شيدناه من ماضي وحاضر الذكريات ترى ماذا فعل الزمان والمكان والموت والحياة بشاندو لال والجالية الهندية التي تعلمت غناء الحقيبة ورمية الدوبيت وتشجيع المريخ والهلال فمن كان يملك الإجابة فالرجاء الإستجابة.
(2)
* أن يخرج شمالي بكل إرثه الثقافي والفكري والوحدوي مخترقاً نظرية السودان المستقل ويحارب في صفوف العصابة المتمردة بكل تناقضاتها وغربتها الفكرية وأفعالها البغيضة على أرض الواقع، فإن هذه في حد ذاتها ظاهرة تستحق الدراسة والتقصي لا التجريم فقط الذي مضى زمانه. الكثيرون يستحقون الحوار المكثف الذكي لمصلحة التجربة السودانية الأفريقية والعربية في الإنتماء.. ليس عبر المنهج الظاهري الذي يربت على وجه الجرح دون أن يفتحه .. أعادت لي استقالة بعض فتيان العصابة المتمردة وتسليم أسلحتهم للجيش وعودتهم لرحاب الوطن والجماهير والشرعية، نعم أعادت إلى نفسي الكثير من الحيرة والتساؤلات.. خاصة أنهم لم يفصحوا عن الكثير من الخفايا والأسرار.
فهل يا ترى هي توبة أم هو أحساس عميق بإقتراب أفول الحرب والتشظي ونهاية حلم العصابة المستحيل.
وتتساءل هذه الفئة الأيبة التائبة: هل يا ترى بعد كل هذه الأحلام ستبقى في دائرة النبلاء أم دائرة العملاء.. وهل سيكون المكان نيروبي أم الخرطوم وهل سيكون الزمان السودان المشرذم الوحيد أم السودان الموحد الجديد؟ إن من حق الساحة السياسية أن تتساءل هل بقي في عمر برمة ناصر بقية من توبة وعقلانية؟ وهل بقي في جسد حزب الأمة مكاناً للبرء والعافية من جراح الغربة واللا فكرة واللا وطنية؟. هل ياترى مات زمان الأحزاب الطائفية وجف ضرعها وزرعها وهل تبقى بقية الورثة الضئيلة نهباً لأمثال برمة والتعايشي ومحتار بابو وبقية الأقزام في زمان إنحسار العمالقة والكبار؟.
(3)
* ومن الهدايا
حفلن قلنا السما تجلي
والنجم بتضاري في الحلة
كالجناين تلقي كل حلة
فيها وردة ونرجسة وفلة
فيهن السلسال شفا الغلة
فيهن العلة ودوا العلة
كلهن متبلمات الا
من لحاظن ارحم الجلة
أعزائي أبناء النوبة في الشمال وأبناء جبال النوبة في الغرب بعد كل هذا الجمال ماذا تبقى لنا من الخليل وماذا تبقي لكم خلوة وقرآن وجهاد وإستشهاد الفكي على الميراوي؟ .
(4)
* حكى صلاح أحمد إبراهيم أنه كان يبحث عن علي المك عليهما الرحمة فدلوه على مكانه بجوار سينما أم درمان يجمع معلومات عن السوقة والدهماء ويتبسط معهم ويأكلوا الفول المدمس مع الشاي الأحمر.
فقلت له: ألا تستحي يا ود المك؟.
فقال ضاحكاً: وهل أستحى الشاعر العتّابي وهو يأكل الخبز (الفريك) بباب الشام كما جاء في كتاب الأغاني؟.
وحكى بلسان أمدرماني فصيح أن عثمان بن الوراق قال رأيت الشاعر العتابي وهو يأكل خبزاً على الطريق بباب الشام ، فقلت له: ويحك أما تستحي؟ .
فقال لي: أرأيت لو كنا في دار فيها بقر كنت تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك؟.
فقال: لا.
قال: فأصبر حتى أعلمك أنهم بقر.
فقام فوعظ وقص ودعا.. حتى كثر الزحام عليه.. ثم قال لهم: روى لنا غير واحد أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار فما بقي واحد إلا وأخرج لسانه يوميء به نحو أرنبة أنفه.. ويقدّره حتى يبلغها أم لا.. فلما تفرقوا، قال لي العتابي ألم أخبرك أنهم بقر..
وضحك علي المك بجلجلته المعهودة وصاح يا شباب دا صلاح بتاع غضبة الهبباي ومريا وكده، وقال ليكم أنا ماشي حتى لا يتشابه عليه البقر وواصل فاصل الضحك الفياض.
ولإنفصام النخبة عن الجماهير إعتزالها فقد إمتلأت الشوارع أبقاراً ليس فيها فحول وإستطاع الغازي العميل أن يدخلها إلى زرائب الهزيمة يقتل ويغتصب وينهب ويحرق ويدمر فلما إستفاق الرعاة وجدوا أن أبقارهم بلا لحم ولا حليب وإستعصت على أهل البيطرة والتأمين فماتت وتلاشت الثروة وتأسنت البطاح الروابي والمراعى. فمن يبلغ الراحل علي المك بأن السينما قد أغلقت أبوابها ولم تستطع دارفور أن تزرع فولاً هذا العام. أما الفتيات المحفوظات بسبل كسب العيش الحلال فلم يجدن الآن فتات الرزق ولو بالحرام، فقد ماتت فيهن صبوة الطفولة ومات في الرجال موهبة الفحولة ولو (بلاش)