أحداث إنتفاضة 2 يوليو 1976 للجبهة الوطنية

عودة نميري المفاجئة أفشلت الخطة
أحداث إنتفاضة 2 يوليو 1976 للجبهة الوطنية
في دار الهاتف استشهد عبد الإله خوجلي ونجا غازي صلاح الدين
الشريف حسين الهندي كان العقل المدبر وحزب الأمة قدم النسبة الأكبر من المقاتلين
محمد نور سعد غادر العاصمة وتم القبض عليه بالقرب من الدويم
بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظ
داخل الستة عشر عامًا التي قضاها جعفر نميري حاكمًا على السودان واجهته صعاب وصراعات عديدة بدأت بصراع الشيوعيين معه على السلطة بالطريقة الدراماتيكية التي عرفت بإنقلاب هاشم العطا وصراع صناع مايو معه، ومن ثم انقلاب حسن حسين، حتى أتى يوم 2 يوليو من العام 1976 الذي جعل الصراع على السلطة يصل تلك المرحلة المتقدمة من التخطيط . كان يوم 2 يوليو يومًا عاديًا لكل السودانيين في كل مدن السودان، فعند الساعة الواحدة والنصف ظهرًا حدثت المفاجأة للقوات المسلحة السودانية التي لم تكن تتحسب لمغامرة غزو العاصمة بسلاح متطور ومقاتلين شرسين لأبعد الحدود في مقابل مغامرة أحزاب الجبهة الوطنية الإتحادي الديقراطي وحزب الأمة والأخوان المسلمين. وهي مغامرة كانت مجهولة التوقع والنتائج وفقًا لمسار الأحداث التي حدثت فيما بعد.
+ دعم إثيوبي ليبي
منذ أحداث الجزيرة أبا وودنوباوي في مارس 1970 ظلت أحزاب الجبهة الوطنية في منفى اختياري لها بكل من إثيوبيا وليبيا، فكان أن أستقرت معظم القيادات لهذه الجبهة السياسية بها مع توفير الحكومتين الإثيوبية والليبية للدعم غير المحدود في تدريب المقاتلين وفتح المعسكرات وإمداد السلاح والغذاء مع توفير غطاء سياسي واضح لها لسوء العلاقة ما بين الدولتين من جانب والحكومة السودانية في جانب آخر.
+ الشريف حسين العقل المدبر
تقول الوثائق المتوفرة عن فترة ما قبل دخول القوات إلى العاصمة أن العقل المدبر لهذه الأحداث كان المرحوم الشريف حسين الهندي وبمعاونة كل من القيادي بتنظيم الأخوان المسلمين عثمان خالد مضوي والقيادي بحزب الأمة د. عمر نور الدائم في وجود شخصيات قامت بأدوار عديدة لتجهيز العملية العسكرية منهم بكري عديل حزب الأمة وغازي صلاح الدين الأخوان المسلمين والقيادي الإتحادي (دندش) الذي قام بدور محوري في امداد السلاح والمركبات.
+ خلافات داخل الجبهة
تركز تصنيف المقاتلين داخل الجبهة الوطنية بنسب متفاوتة إذ شكل مقاتلي حزب الأمة النصيب الأكبر بنسبة 65% مع نسبة 25% لمقاتلي الحزب الإتحادي الديمقراطي مع نسبة 10% للأخوان المسلمين. ومنذ ابريل 1974 بدأت وفود المقاتلين لهذه الأحزاب السياسية التوافد إلى ليبيا بغرض العمل في ظاهر الأمر والتدريب والإستعداد لغزو العاصمة الخرطوم واستلام السلطة في خافي الأمر . وبذلت الحكومة الليبية قدرًا كبيرًا من المساعدات للجبهة الوطنية بالسلاح والمال وفتح المعسكرات وتوفير المركبات مع تنسيقها التام مع الحكومة الإثيوبية لوصول المقاتلين المحترفين الذين تلقوا تدريبات مكثفة على الأسلحة التي سيتم استخدامها في عملية الإستيلاء على السلطة في الخرطوم.
+ قيادات العملية:
وقع اختيار الجبهة الوطنية وأحزابها على العميد محمد نور سعد الذي ينتمي لبيت من بيوت الأنصار لقيادة العملية، فكانت رحلتان سريتان للشريف حسين الهندي لألمانيا حيث يقيم العميد محمد نور سعد كدارس لتلقي دراسات عسكرية بها، فكان أن أصطحب في احداها القيادي بحركة الأخوان المسلمين عثمان خالد مضوي صاحب المسؤولية في التنسيق والمتابعة مع الحكومة الليبية. واقترح العميد محمد نور سعد على الشريف حسين أن يكون تنفيذ العملية صباحًا في يوم 12 يوليو وبعد مشاورات عديدة تم الإتفاق على يوم 2 يوليو تحت مبررات الشريف حسين وعثمان خالد مضوي التي تركزت في جاهزية القوات التي ستتحرك من ليبيا لتصل إلى غرب أمدرمان بعد خمسة ساعات من بداية العملية، وهو المقترح الذي لم يجد قبولًا من العميد محمد نور سعد الذي أشار عليهما بضرورة وجود القوات أجمعها في موقع واحد حتى يسهل توجيهها.
+ العملية ومفاجأة القوات المسلحة السودانية
عند ظهر يوم 2 يوليو بدأت أولى طلائع القوات في الوصول لغرب أمدرمان دون أن تلفت إليها انتباه أحد وتحديدًا في منطقة ود البشير شعر المواطنين بأحياء أمبدة أن هناك أمرًا غير عادي، وما إن مرت ربع ساعة حتى سمع الناس أصوات الرصاص من مختلف الأسلحة الثقيلة في منطقتي الإذاعة وسلاح المهندسين، وبل عبرت القوات كبري النيل الأبيض الرابط بين مدينتي الخرطوم وأمدرمان لتصل المعارك إلى قلب القيادة العامة للجيش شرق الخرطوم .
+ نميري وعودته من فرنسا
كانت خطة الاستيلاء على السلطة تتركز على انتظار الرئيس نميري في مطار الخرطوم بعد زيارته لفرنسا واغتياله داخل المطار. فكان أن كتب الله له عمرًا جديدًا بوصول الطائرة قبل وصول القوات المقاتلة للمطار. غطت المفاجأة علي كل القوات المسلحة الموجودة بالخرطوم، فاليوم يوم اجازة رسمية في وجود قوات بسيطة العدة والعتاد داخل الوحدات العسكرية، مما سهل حركة القوات المقاتلة للجبهة الوطنية بكل سهولة ويسر.
+ ثلاثة أيام دون سيطرة وبيان من الجبهة الوطنية
لثلاثة أيام ظلت القوات المسلحة السودانية في دفاع عن وحداتها حتى تسببت ثلاثة أسباب رئيسية في انهيار القوات الغازية وهي: تغير الخطة التي تم تسليمها للمقاتلين باعلان الحكومة من الإذاعة السودانية مع تمركز القوات في مواقع محددة وهو ما لم يحدث. فبيان الإذاعة السودانية لم يبث بسبب عدم معرفة المقاتلين المكلفين باحتلال الإذاعة بموقعها، زائدًا تأخر الشخصيات المكلفة بالوصول لها في التحرك مع عدم قدرة الفنيين على تشغيل الإذاعة الإحتياطية التي بحوزة القوات والتي تم تجهيزها من ليبيا حال عدم القدرة على الوصول للإذاعة. ولأسباب لم تعلم بعد لم يتم تشغيل الإذاعة الاحتياطية.
+ بونا ملوال والتحرك السريع
كان لتحرك وزير الاعلام بونا ملوال مع السفارة المصرية دور كبير في تشغيل الإذاعة بدعم مصري وهو ما جعل قيادات الحركة بعد يوم واحد من المعارك يصيبها اليأس بسبب صوت أبو القاسم محمد إبراهيم وبونا ملوال عبر الإذاعة السودانية وهم يطمئنون الشعب السوداني باقتراب النصر على (المرتزقة) وهو المصطلح الذي أصبح الشعب السوداني يطلقه على الأحداث (أحداث المرتزقة) دون الإشارة لأحزاب الجبهة الوطنية أصحاب المشاركة الحقيقية في الأحداث.
+ جوانب أخرى
ساهمت الوحدات العسكرية قريبة المسافة من الخرطوم في تحركات مضادة جعلت ميزان القوى يميل لصالح القوات المسلحة وهي وحدة المدرعات بجبل أولياء وفرقة المشاة من شندي مع وصول جنود وضباط سلاحي المظلات والمدرعات بعد سماع نداءات وزير الاعلام والرائد أبو القاسم محمد إبراهيم من عبر الإذاعة. ثاني الأسباب التي جعلت الحركة تصل مرحلة الهزيمة والتراجع السريع هي إلتفاف جنود وضباط القوات المسلحة حول وحداتهم العسكرية بعد استشهاد عدد منهم في اليوم الأول وعودتهم السريعة لميدان المعركة خاصة معركتي سلاح المهندسين بأمدرمان ومعركة القيادة العامة التي أستشهد فيها وحدها قرابة الـ 38 من الجنود واستشهاد العقيد ضابط استخبارات القيادة العامة العقيد محمد يحي.
+ معركة دار الهاتف
ظل عدد من المقاتلين للجبهة الوطنية مرابطين بدار الهاتف لتعطيل الإتصالات والإتصال الخاص بالحركة حتى تحركت القوات المسلحة في معركة غير متكافئة بين الطرفين أستشهد فيها 12 من عناصر الجبهة الوطنية منهم عناصر متنوعة من أحزاب الجبهة الوطنية. وكانت النتيجة تدمير جزئي لدار الهاتف بالخرطوم، حيث أستشهد عضو جماعة الأخوان المسلمين عبد الإله خوجلي، ونجا الطبيب غازي صلاح الدين من الموت وأستبسل عدد من المقاتلين داخل دار الهاتف.
+ العميد محمد نور سعد واللحظات الأخيرة
في ظهيرة يوم 5 يوليو وضح أن الأوضاع العامة للمعركة تسير في غير صالح قوات الجبهة الوطنية التي بدأ الجوع والعطش وعدم النوم ليومين متتاليين مع دخول اليوم الثالث تحرك العميد محمد نور سعد وسط قواته بوسط الخرطوم، فكانت النتيجة أن رأى دلائل الهزيمة آتية لقواته الشيئ الذي جعله يتحرك بعربة لاندروفر مرهقًا وشاحب الوجه عبر طريق غرب أمدرمان إلى النيل الأبيض حيث ألقي القبض عليه قرب مدينة الدويم.
+ المحصلة النهائية
خسرت الجبهة الوطنية خيرة مقاتليها وأسلحتها الحديثة وظل مقاتليها هائمين على وجوههم يطرقون أبواب المنازل طلبًا للطعام وهم في إرهاق واضح . وزادت الإذاعة من بثها لتحرك القوات المسلحة لدحر مقاتلي الجبهة الوطنية في الشوارع وخاصة بعد حديث الرئيس نميري بألا تأخذهم بهم شفقة، فكانت النتيجة دمارًا مرعبًا لآلياتهم العسكرية ومطاردتهم في الشوارع . وما إن أتت الساعة السابعة من مساء يوم 6 يوليو 1976 حتى أعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة عن دحر العدوان الذي وفق تسميتها له كانت تطلق كلمة (المرتزقة) وهي الكلمة التي إلتصقت بالأحداث الدامية خلال أربعة أيام عاصفات من تاريخ السودان.
+ خاتمة
وقد تشكفت مجموعة من الحقائق المذهلة حول أسباب إنهيار الحركة الباسلة ضد النظام الاستبدادي لجعفر نميري وتابع الرأي العام السوداني والعالمي محاكمة العميد مهندس محمد نور سعد الذي كان رابط الجأش وشجاعاً وهو يواجه المحكمة وحبل المشنقة. وتمت محاكمة الكثير من القيادات من بينهم الراحل المحامي علي محمود حسنين والمصرفي عبد الله بدري الذي أصبح لاحقاً مديراً لبنك التضامن الاسلامي، وحكم بالإعدام غيابياً على السيد الصادق المهدي والشريف حسين الهندي وعثمان خالد مضوي ممثل الحركة الإسلامية في الجبهة الوطنية والمنسق العام، وكتبت النجاة بأعجوبة لمجموعة من القيادات منهم إبراهيم السنوسي وأحمد سعد عمر والأستاذ مهدي إبراهيم ومن الإعلاميين الذين تمت محاكمتهم المذيع أبوبكر عوض الذي قضى سنوات بكوبر وأصبح لاحقاً محاضراً في الجامعة الإسلامية بعد أن أعد رسالة الدكتوراة في الاعلام بالولايات المتحدة الأمريكية. وفي حلقاتنا سوف نستعرض تفاصيل المحاكمات وبعض الخفايا والأسرار وشهادة بعض القيادات وإعترافاتهم كشفاً للحقائق وإنارة لإحداث التاريخ التي نأمل أن تسهم في إشاعة روح السلام والمصالحة بعيدًا عن البندقية. وقد مهدت هذه الحركة بكل أحزانها ودمائها وشهدائها للمصالحة الوطنية بين الجبهة ونظام جعفر نميري، حيث عاد الصادق المهدي للخرطوم ليؤدي القسم للإتحاد الاشتراكي ويخرج الدكتور حسن الترابي من كوبر ليبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الإسلامية السودانية مستفيداً من مصالحته للنظام في إعداد كوادره التي حققت انتصاراً باهرًا في انتخابات 1986م وقادت محصلة هذه التجارب إلى ثورة الإنقاذ في 1989م. وبقي الشريف حسين الهندي كالسيف وحده معارضاً وقد أفلت منه الكثيرون من كوادر الحزب الاتحادي الديمقراطي الذين انخرطوا في المصالحة الوطنية في مقدمتهم السيد محمد عثمان الميرغني، وأخيراً عاد الشريف إلى الخرطوم جثماناً طاهراً حيث وري الثرى في ضاحية بري في جوار ضريح والده الشريف يوسف الهندي وبموته إنطوت صفحة ناصعة ومثيرة للجدل في تاريخ القيادات السودانية المعاصرة.