أكواب بابل في ألسنة البلابل

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
أكواب بابل في ألسنة البلابل
(1)
نعم، حكمنا وملكنا منذ فجر التاريخ إلى اليوم بقيم الوسط العادل، الذي صنعه وصاغه أبناء السودان كافة، من شتى الأصقاع والقبائل. وجعلنا شعارنا: الكفاية والعدل للفقراء والمساكين و”المعذبين في الأرض”، وقلنا دائمًا: “ما في دين بلا عجين”؛ فكانت المساجد، والخلاوي، والتكايا، والفروسية، والآداب، والأشعار، والآبار، والأنهار، والفنون.
وتزاوج أهل السودان على المحبة والاحترام، وكانت القلوب مترعة بالإيمان، والأبواب مشرعة بالخير والكرم للضيوف. وكان الوسط والشمال، بكل مدنه ونوادره ودساكره وقراه، موطناً للعطاء والبذل وحب الآخرين. كانوا يأكلون من حلال أموالهم، ويتزوجون من حلائل قومهم، وكانت النُّطَف عندهم غير متهمة، وكانت الأرض والنيل للجميع. وكانت الحضارة والدين والاعتدال هي التي أقامت الممالك، وأسست للحريات والاستقلال.
وهذه أجيال حاورت، وصانعت، وقاتلت في سبيل الله والوطن، وكان شعارهم في ذلك ما قاله النابغة الجعدي، في أبياتٍ توجب علينا أن نكتبها بملامح الذهب وماء العيون. وحين قالها، كأنما كان يعني هذه الأرض الطيبة، سودان 56:
مَلَكنا فَلَم نَكشِف قِناعاً لِحرَّةٍ
ولَم نَستَلِب إِلاَّ القِنَاعَ المسمَّرا
وَلَو أَنَّنا شِئنا سِوى ذاكَ أَصبَحَت
كَرائِمُهُم فِينَا تُباعُ وَتُشتَرى
وَلكنَّ أَحساباً نَمَتنا إِلى العُلى
وَآباءَ صِدقٍ أَن نَرُومَ المحقَّرا
نعم… لقد ملكنا وحكمنا لعشرات السنين، فكنا حفلاً للأمجاد، ورايةً للتحرير، ومنارةً للتعمير، وميداناً للتضحيات والمكرمات. كنا للناس كالنداء للملهوف في الليل الحالك؛ كنا ستراً للأعراض، وبلسماً للأمراض، وهدايةً للسالكين.
أما حين ملكوا وحكموا لبضعة أيام، فكان هذا ما تشاهدونه اليوم في سنجة، والدندر، والجزيرة، والخرطوم، والنيل الأبيض، وكردفان، ودارفور… وحشية، مذابح، اغتصاب، لصوصية، إحراق وتدمير. بشاعة لم تعرف لها المدنية المعاصرة مثيلاً ولا شبيهاً.
ورغم الجراح، ورغم الدماء، ورغم الممتلكات المنهوبة، إلا أن الدرس الذي تعلمناه ــ رغم فداحته ــ كان درساً عظيماً… فقد عاد الوسط من جديد، معافى، واعتصم الشمال بربه وشعبه، وانتصر النيل الأبيض بقلبه الأبيض وأياديه البيضاء على الجميع، وانتفضت كردفان الغرّاء، أم خيراً جوة وبرة، وبقيت الفاشر حتى يومنا هذا، تدافع عن شرفها وكبريائها ووحدة السودانيين.
كأنما المحمل المعد للانطلاق صوب الكعبة قد سارع بالمسير، وكأنما الشهيد علي دينار يقف على بوابة المدينة مودعاً. وحين أصبحت المدن والبطاح الأخرى تحت قبضتهم، كانت النتيجة… الجريمة. الجريمة التي وثقوها بأيديهم.
صارت الجنينة حفرة لدفن الناس وهم أحياء، أما نيالا، أميرة مدن غرب إفريقيا، فقد سرقوها، واغتصبوها، ودمروها. وعندما انتهت قصة هذه المدينة الشاهدة على الحيوية والتواد والخلق الرفيع، كانوا على أعتابها كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله؛ قتلوا أنفسهم، وسرقوها، واحترقوا باللهيب الذي أوقدوه ظلماً وجهالة.
أما الضعين، فقد تحولت في ظل ملكهم البائس وحكمهم النشاز، إلى مخزن كبير للمسروقات. من قبل، كانت مخزناً للقيم، والحكمة، والتصالح، تحت قيادة الفريق أنس عمر، باركه الله شهيداً أو سجيناً أو أسيراً؛ ففي كل الأحوال، الفارس لا يخسر، بل يخسر الأقزام الذين قيدوه بالسنان، وقيدهم بالإحسان.
كل هذه المرارات والبشاعات صنعتها هذه العصابة اللعينة، لأنهم ببساطة، لم يقرؤوا القرآن، ولم يجالسوا العلماء، ولم ترقق قلوبهم حكايات الصالحين، ولا مدائح المنشدين، ولا أشعار النابغة. وأنا لهم ذلك؟! ومأكلهم حرام، ومشربهم حرام، وملبسهم حرام… وهزيمتهم قادمة، وماحقة، ولو بعد حين.
(2)
لو كنت شريكا وصاحب أكثرية في توليفة بورتسودان السياسية وعرضوا على حركتي أو حزبي أو تياري الوزارات ومنحوني الفرصة بأن أختار من الحقائب ما اشاء وأرغب لاخترت وزارة التربية والتعليم والاعلام والشباب والرياضة والزراعة فهذه هي وزارات المبدئيين والمستقبل.
أما كل الوزارات الأخرى على أهميتها فهي دون ذلك.
فإن كان لهؤلاء الانتقاليين والمفروضين حظا أو غفلة أو قسرا أمل في المستقبل وثقة في الشعب لما تشاكسوا بالكراسي على الكراسي.
(3)
قال الناطق الرسمي باسم قوى الحق والخير والجمال إن القوى العظمى في هذا العالم البائس دولتان:
1- أمريكا بترفها وسخفها
2- واليمن بشظفها وشرفها
وخير الحديث ما قلْ ودلْ