عودة حجاج دارفور .. عبور صحراء القهر واجتياز بحار الوجع ومصافحة الموت

كتب: عبد اللطيف السيدح
عاد حجاج ولاية غرب دارفور إلى تراب وطنهم، تتقدّمهم الدموع وتُعانقهم الأوجاع، بعد أن سلكوا دروبًا من نار، ومضوا في رحلة لم يكن يعرف أحد كيف ستنتهي أو إن كانت ستنتهي أصلًا، لم تكن تلك رحلة حجٍ عادية، بل كانت عبورًا في صحراء القهر، واجتيازًا لبحار الوجع، ومصافحة للموت الذي كان يطلّ برأسه في كل زاوية، وكل معبر، وكل محطة انتظار.
وكان حجاج غرب دارفور خرجوا من ديارهم في رحلة الإيمان إلى أرض الطهر والنقاء لا يحملون سوى الإيمان، وتحفّهم دعوات الأمهات والآباء، حيث عبروا الحدود السودانية التشادية إلى “أبشي” تحت نار النزوح، ومن هناك إلى “أنجمينا”، ثم إلى “أديس أبابا”، فإلى جدة، ومنها إلى المدينة المنورة فمكة المكرمة، حيث أدّوا فريضة الحج بروح مكسورة وجسدٍ منهك، ثم عادوا من ذات الطريق الطويل الذي حفَر في أرواحهم ندوبًا لا تمحى.
في عيونهم حكايات من الفقد والحرمان، وفي قلوبهم وجع لا يشبهه وجع من ودّع أمّه على معبر، إلى من سمع خبر استشهاد أخيه وهو يُلبي، إلى من قضى الحجّ طريح الألم، لا لشيء إلا لأنه من دارفور الجريحة ، ورغم كل ما حدث، عادوا… عادوا بشرف الصبر، وبأجر الحج، وبقلوب تتلو “لبيك” في صمت دامع.
عادوا والوطن في انتظارهم، ليحكي من خلالهم فصول رحلة عنوانها “الهجرة إلى المجهول” ، وما أصعب أن تبدأ رحلة العمر وأنت لا تعرف هل تعود بعدها أم تظل أسير المجهول! حيث لم تكن لحظة الانطلاق لعدد 49 فردا من حجاج وحاجات ولاية غرب دارفور من الجنينة أو زالنجي مجرد بداية لرحلة إلى الأراضي المقدسة، بل كانت خروجاً من جراح الوطن إلى مجهول تتناسل فيه المخاطر، فأبشي المنطقة الحدودية بين السودان وتشاد ما هى إلا محطة للبكاء المكبوت، وعنوان للمجهول الذي يزداد ضبابية، حيث تواصل المسير بالنواقل البداية، البغال، والجمال، والحمير، والسيارات الخاملة المتهالكة التي أوصلتهم عبر الفيافي والوهاد والصحاري العطشى إلى أنجمينا التي كانت محطة عبور للألم والحزن والوجع الذي رافقهم إلى أثيوبيا وهناك انسكبت الدموع مرة أخرى في مطار أديس ابابا، بصورة أكثر تعقيدا مع سجن الترانزيت اللئيم، وحين هبطوا بأرض الوحي إندمجت في أرواحهم المناسك بالبكاء و انهمرت دموعهم بلا استئذان.
انتهى الحج ولكن الجرح لم يندمل فحين بدأ الحديث عن العودة، تسرب الرعب مجددًا إلى القلوب، رجعوا عبر نفس الطريق الذي جاءوا منه من جدة إلى أديس، ثم أنجمينا، ثم أبشي ثم إلى اللاشيء، وصلوا إلى أبشي وطن العراء من جديد، ولكنها لم تكن نهاية الرحلة
لا طريق للعودة إلى ديارهم إلا عبر أرض الموت.. مناطق تسيطر عليها مليشيا آل دقلو المتمردة، ومنذ ثلاث سنوات تخاطب الأنفس الرحيمة
الجهات المختصة، وتنادي الحكومة، وتستغيث بالمجتمع الدولي أن يترفق بحجاج ولاية غرب دارفور لكن لا حياة لمن تنادي. والحديث عنهم لا ينتهي، لأنه لا نهاية لمعاناة دارفور مادامت تحت رحمة المجرمين.