خواطر حاج عند منتصف القرن الخامس عشر الهجري

خواطر حاج عند منتصف القرن الخامس عشر الهجري

المسلمي البشير الكباشي

• على ضوء رحلة الحج هذا العام..
وتلج إلى الطواف من باب السلام، تلمع تلقاء ناظريك الكعبة بشرفها وجلالها كأنها تبتسم لقدومك..
وضع قواعدها أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل، عليهما السلام، مركزية لليقين الحق تجاه الله والإنسان والحياة، ورمزية للوحدة والتوحيد الذي تقوم عليه الحقيقة الكونية الواحدة.
أغوص في الطواف، وأستغرق في الذكر والدعاء، وتتناسل المعاني عن الفعل أسئلة ومساءلات؛ فتتكثف في عقلي وجناني ووجداني معاني الطواف على مركزية الحق، والالتزام به، والاستقامة عليه. ومن انبثاقات ذلك وتجلياته هذه الوحدة التي تجمعني بهذه الملايين، بهذه الألوان والأشكال والأحجام والألسن، في البوتقة الواحدة.
وحين يستغرق المرء في تأمل المعاني المتخيلة من غايات اندماج هذه الأطياف البشرية، وتسرح في عالم المسلمين خارج صحن الكعبة، تلطم وجهك صورة التفرق الشاسع والتمزق المهيض شذر مذر في أبشع مشهد، وتتجسد عندك مفارقة الفعل بغاياته.
ومع ذلك، ظلت الكعبة ممسكة بتوق الوجدان المسلم، وشغف الجنان بالمعاني الأسمى، وهي بهذا تدق ناقوس النداء إلى الوحدة العظمى تحت ظل التوحيد الأجلّ، وهذه واحدة من أهم تجليات الصلاة ممسكةً بكتل الأمة من جهات الأرض الأربع، شادةً لها خمس مرات في اليوم والليلة إلى مركزية الوحدة والتوحيد.
بعد ركعتين عند مقام إبراهيم، تتجه إلى المسعى بين الصفا والمروة، الحكاية لا تزال نابضةً بالحياة، مفعمةً بالمعاني.. النبي يترك الزوجة والابن عند هذا القفر، وادٍ غير ذي زرع! حينها، وليس بين يديهما حتى جرعة ماء تُسكت صراخ الطفل العطِش، وبالرغم من يقين العناية إثر سؤال الزوجة هاجر للنبي إبراهيم- عليه السلام-: آلله أمرك بهذا، أن تتركنا ها هنا؟ إذن لن يضيعنا.. بالرغم من يقين العناية، فإن توتر الأم تجاه مصيرها ومصير ابنها حرك طاقة السعي انتظارًا لتنزُّل الرحمة، التي انبجست عن خبطة من جناح جبريل تحت أرجل الطفل، وأصبح كد ودأب الأم سُنّة الرزق الباقية، وشعيرة السعي التي تفجر طاقات الحياة، وتجلي تنزلات السنن الكونية، وتلك هي المعاني الأبقى لشعيرة السعي.
حين اعترض الشيطان إرادة أبي الأنبياء إبراهيم في تحقيق مراد الله في ابنه إسماعيل عليهما السلام، تصدى له بالرجم؛ فشرعت شعيرة الرجم رمزًا لما ينبغي أن يكون أسلوبًا للعلاقة بين الإنسان المهتدي والشيطان المتمرد
فالشعيرة ليست فقط لتجديد ذكرى بهذا القدر والمحتوى التأسيسي للتوحيد في تجلي التوكل، واليقين بالاستجابة مهما غابت دلالاتها المادية. والعبرة ضرورة السعي في الدنيا بالرغم من ضمانتها من مصدرها، وحين يتأمل المرء الدعاء المأثور في مقام السعي (الحمد لله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده) في قلب الذكرى، تتأكد ديمومة السعى المجاهد لتنزيل معاني الرسالة ومهمة الرسول في إزالة عقبات تقدمها.
والسؤال هو: هل يستبطن هؤلاء الملايين الساعين بين الصفا والمروة معاني تسائِل العقل والوجدان المسلم خارج أشواط المسعى بعزم جديد يخاطب حال الأمة؛ ويسهم في إخراجها من وهدة تخلفها إلى أفق العلو والشهود؟
وعند الجمرات، الأعداد الهائلة تحيط الجمرة لترجم الشيطان بحماسة، إنه عدو الإنسان الأبدي، الإنسان ابن الجنة، فيها خلق والداه آدم وحواء، وفيها استمتعا بأمواه الجنة وثمار وظلال أشجارها، وحين طابت لهما ظهر إبليس يزرع فيهما بذرة الطمع وغريزة الخلود.. بهذه الحادثة، التي أنزلت الإنسان من عرش الجنة إلى وهاد الدنيا، أصبح الشيطان عدو الإنسان المستدام، وأقسم على أن تكون مهمته إلى يوم الدين الكيد والمكر والمكيدة والإغواء.
وحين اعترض إرادة أبي الأنبياء إبراهيم في تحقيق مراد الله في ابنه إسماعيل عليهما السلام، تصدى له بالرجم؛ فشرعت شعيرة الرجم رمزًا لما ينبغي أن يكون أسلوبًا للعلاقة بين الإنسان المهتدي والشيطان المارد المتمرد.
ولكن، هل يخترق المسلم بوعيه حجاب الحادثة المحددة إلى أفق المعاني المستدامة غير المحدودة في منهج العلاقة بالشيطان؟
أنكتفي برمزية الفعل أم نجتازها إلى واقعية المعاني، التي تكبل مسارنا نحو الله ننشد عدلًا ورشدًا واستقامة؛ فنرجم كل الشرور التي هي من الشيطان، أمراض القلب متجليةً شحًا وبخلًا وحسدًا، وانعكاساتها عدوانًا على النفس والمجتمع، في الاقتصاد والسياسة وكافة منظومة العلاقات الإنسانية، وفي عدوان السلطان وجوره، وظلم السلطات والسياسات، وغير ذلك من معرقلات ومكبلات مسار الأمة إلى مراد الله، الذي هو إقامة القسط والميزان الحق في الدنيا؟
العقبة الثانية قبل الهجرة النبوية بثلاثة أشهر، بايع فيها 73 رجلًا وامرأتان الرسول الأكرم على نصرة النبي، وصد العدوان عنه، والسمع والطاعة في اليسر والعسر، والمنشط والمكره.
فهل يعود المسلم من رحلة الحج وقد رجم سيئ عاداته، وغدا أكثر إيمانًا، وأنقى وجدانًا، وأصفى جنانًا، وأوسع رؤيةً، وأوضح موقفًا، وأعدل حكمًا تجاه قضايا أمته وقضايا الإنسان؟ هل يستخلص معنى أعمق من الذكر في لحظات الرجم؟
فالذكر في لحظات الرجم ليس “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، بل هو “الله أكبر”! وهي لحظة عميق اليقين بكبر الله وعظمته على كل من وما اتُّخذ من أرباب، وعلو المؤمنين به على من سواهم.
هنا تنزع الأمة الوهن، وتخلع ثوب الدونية والاستضعاف الذي تتدثر به أزمانًا وأزمانًا، خاضعة لأشتات الأرباب المتفرقين، وهي التي تستمد قوتها من حول الله وقوته، وتستمد رؤيتها من علو الله وعظمته. وحين يستحكم المعنى الحق في العقل والنفس، فإن موقع الأمة المفترض هو سقف السماء.. فأين هي الآن؟!
والعقبة ذاتها، والمكان نفسه، كانا موضعًا لفعل مختلف تم فيه رجم الشيطان بطريقة أخرى! العقبة ذاتها كانت موضع أهم وأضخم وأقدس تحولات التاريخ.
في العقبة الأولى، في العام الثاني عشر من البعثة النبوية الشريفة، بايع اثنا عشر رجلًا من الأوس والخزرج (سكان يثرب) الرسول- صلى الله عليه وسلم- على عقيدة الإسلام وقيمه وأخلاقه، وبعث معهم سفيره الأول مصعب بن عمير ليشترع أمر الدعوة في يثرب.
والعقبة الثانية قبل الهجرة النبوية بثلاثة أشهر، بايع فيها 73 رجلًا وامرأتان الرسول الأكرم على نصرة النبي، وصد العدوان عنه، والسمع والطاعة في اليسر والعسر، والمنشط والمكره. وهذه البيعة هي التي قدحت فكرة الهجرة، وبها حدث الانقلاب الكوني الذي صعدت به وتيرة الإسلام حتى بلغ ما بلغ الليل والنهار.
استحكمت في قلبي لحظة الذكرى بأن هذا المكان هو الذي استودع فيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمته والدنيا، وأتم فيه الله جلّ وعلا الدين {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.}
• أما عرفات، فالحال معها كما قال البرعي اليمني:
قلبي ارتوى من زمزم بعد النوى .. وأتي إلى عرفات أرض التوبة
في عرفات مستجمع الجهد، وتمام الفريضة، وسنام شرط صحتها (الحج عرفة).. هناك تكثيف كل شيء للفوز بثمار الرحلة! من الصعب إيجاد الكلمات التي يمكن تطويعها لتلائم عرفات، المشاعر، مشاعر الطاعة ومشاعر الوجدان المغموس فيها، لحظة للملمة دفقة شعورية تتراكم قبل أيام لتوافي أوان انفعالها وانفجارها، كأنما تدغم في مفاعل ميلاد جديد، أنت فيه لست أنت! والمعاني هنا أضخم من الألفاظ.
استحكمت في قلبي لحظة الذكرى بأن هذا المكان هو الذي استودع فيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمته والدنيا، وأتم فيه الله جلّ وعلا الدين {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، وأنه موقع آخر كلماته- صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع في حجته اليتيمة، الخطبة التي استوفت كل الدين، وهي ملخص لمسيرة الهداية منذ التنزل الأول للوحي حتى لحظتها، لحظة خطبة الوداع، التي جمع فيها- صلى الله عليه وسلم- كل ما يقول المودع في وصاياه: العقيدة والشريعة، وكل هاديات الطريق إلى الله.
كان- صلى الله عليه وسلم- يحدثهم بإشارات واضحة أنه يودعهم: “أيها الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا”. وبعدما أوصاهم بأمور الدين ختم بجرعة معنوية وحافز نفسي لا ينضب، يجدد ثقة المسلم، ويظل به تيار الأمل وحسن الظن بحسن العاقبة دفاقًا: “أيها الناس، موعدكم معي ليس الدنيا، موعدكم معي عند الحوض.. والله لكأني أنظر إليه من مكاني هذا.”
كان الحج في غالبه لكبار السن من المسلمين، حتى غدت كلمة “حاج” تطلق على الكبير وإن لم يحج، كما في بلادي السودان، ولكن طغى الشباب بنسبة كبيرة على حج هذا العام بشكل واضح
واشوقاه إلى لقيا الحوض بالحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- لو أن لي سبيلًا إليهم لاقترحت على أئمة عرفات ألا يزاد على خطبة الوداع في عرفات عند كل حج، فهي جامعة، متجاوزة الزمان الماضي والحاضر والمستقبل.
وختامًا لي ملاحظتان؛ الأولى التي أرجو أن يقوم عليها دليل بإحصاء علمي هي زيادة أعداد الشباب الحجاج على الكهول والعجائز؛ كان الحج في غالبه لكبار السن من المسلمين، حتى غدت كلمة “حاج” تطلق على الكبير وإن لم يحج، كما في بلادي السودان، ولكن طغى الشباب بنسبة كبيرة على حج هذا العام -وربما في أعوام سابقة لم أشهدها- بشكل واضح.
وربما كان هذا -في تقديري- لسببين؛ الأول الصحوة الدينية التي تجتاح البلاد الإسلامية، والثاني ربما ازدياد الأموال بين يدي الشباب، ويعبر ذلك عن أحوال تطور مهني أكثر كسبًا ماليًا ارتاده الشباب. وعلى كلّ حال، هي ظاهرة إيجابية تزداد بها حسرة نفوس من ينتظرون تضعضع الإسلام وانحساره، فلله الحمد والمنة.
الملاحظة الثانية تخص التطور المستمر في إدارة تنظيم الحج، ومحاولة تحسين الخدمات المقدمة للحجيج بما ييسر المهمة، بما في ذلك ازدياد درجة الانضباط والتحكم، بشكل بدا معه الانتقال بين المشاعر ميسورًا بنسب مقدرة.
هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..