حين يصبح (ماركيز ونجيب محفوظ والطيب صالح) في آخر الطابور

ولألوان كلمة:
حين يصبح (ماركيز ونجيب محفوظ والطيب صالح) في آخر الطابور
حكى لي رجل أعمال شهير يقيم الآن بالقاهرة في تأثر بالغ وحزن عميق عن حكاية لا يحملها وحده، بل يحمل مثلها ملايين السودانيين الذين رأوا بأعينهم مشاهد القتل والسحل والسرقات والاغتصاب والمذلة والهوان لشعب لم يعرف هذا النوع من الاحتقار في حياته، من أناس كان يظنهم حتى في الأمس القريب بأنهم أعوان على الخير وفرسان للمساندة ضد نوائب الدهر والمسغبة وتبدل الليالي والأيام، لكن للأسف فقد انقلبت الصورة، فصار هؤلاء الإخوة والأعوان يذبحون قيم الإخاء والترابط والوداد من الوريد إلى الوريد، ويشربون دم الجريمة دون أن يمسحوا الشفاه.
قال لي رجل الأعمال الذي شقي طويلاً في جمع ثروته بالحلال بكدٍ وجهدٍ ومثابرة، قال: والله يا أستاذ، رغم هذا الثراء إلا إنني لم أستمتع به إلا بالحد الأدنى، بل إن العاملين معي من الإداريين والمحاسبين وحتى العمال كانوا أكثر سعادة بوقتهم وأسرهم ووجباتهم ونومهم العميق بالرضا والطمأنينة مني، أنا صاحب الثروة والوجاهة، ونحمد الله أن الوالد أنشأنا بأن نظل مبذولين للناس ونعف عند المغنم، ودخل في القصة بعد هذه المقدمة الجياشة بالمشاعر الإنسانية المخبوءة.
“كان والد هذا الصبي بطل القصة يعمل مع والدي في مخازنه بالسوق العربي، وكان هذا العامل مليء الكاهل بالعيال (محمول)، فرشح لي والدي هذا الصبي ليتربى معي في منزلي وسط عائلتي الصغيرة، كان يطمح أن يكون خادماً في المنزل أو سائقًا أو جناينيًا، لكنني آليت على نفسي أن أعلمه كأحد أبنائي، وفعلاً نال قسطاً وافراً من التعليم، وقد توقفت عجلته بعد الشهادة السودانية، وكنت مصراً أن يكمل دراسته الجامعية، لكنه أصر أن يعمل في مجموعتي سائقًا وراعياً لحاجيات البيت والضيوف، وقد خصصت له سكنًا خاصًا مريحًا في منزلي، وظلت العائلة تعامله كأحد أبنائها، بل أكثر وأكبر، وفوق ذلك فقد قمت بتزويجه والصرف عليه وعلى زوجته وعياله الذين كبروا ودخلوا المدارس الثانوية بلا منٍ ولا أذى.
وطيلة هذه الفترة التي استمرت لسنوات متعاقبة كانت علاقتنا به وبأسرته (عسل على لبن)، إلا أن جاءت الأحداث الأخيرة، وانقضت عصابات الشتات على حارات العاصمة وأحيائها، ولم يكن بيتنا الكبير استثناء، وإني لأعجب يا أستاذ من هذا الصبر الجميل الذي تنزل على الشعب السوداني وهو يرى أن أعز ما يملك من ممتلكات ومقتنيات ذهبت في مهب الريح مع الذين لا يقدرونها قدرها، ولا يعرفون ما يحيط بها من قيمة وذكريات، وأضاف: أني لأصدقك القول بأني مزهول من هذا الرضا (المخيف) الذي تنزل على السودانيين في بنادرهم وقراهم، فرغم الغُفر والفقر والهجرة فما زالوا يقابلون بعضهم البعض بابتسامات عذبة وترحاب مهيب، ويقتسمون بليلة المباشر، بل يقتسمون النبقة كما نقول في أمثالنا المتداولة.
قلت له مقاطعاً قبل أن يكمل قصته: إذاً لماذا هذا الحزن، ما دامت السرقة واللصوصية والنهب قد توزعت على الجميع بالتساوي، وقابلها الناس بكل هذا الرضا لزهد عريق وصوفية متأصلة في هذا الشعب؟
قال لي: ليس حزني فيما فقدته وهو كثير: مال وذهب وسيارات وإلكترونيات وفرش ورياش وأدوات منزلية وتحف ولوحات لا تقدر بثمن لعراقتها ونفاستها، لكن بيت القصيد في الخيبة والرثاء والألم الذي يلامس المشاش، أن الأمر قد تم على يد هذا الصبي الذي ربيناه فينا صغيرًا بالحُسنى حتى صار زوجاً وأباً ينعم بالسكن والوظيفة، ويأخذ ما يريده وما يرغب فيه باعتباره أحد أفراد الأسرة.
هل تصدق يا أستاذ، بشهادة الجيران، أنه قد جلب عصابة من بني جلدته، وقد تجمعوا حول منزلنا كالجراد، وبصحبتهم سبع من سيارات النقل الضخمة متسعة الجوف والقدرة، وظلت هذه السيارات لمدة سبعة أيام تنقل كل مقتنياتنا، أنا وأخوتي وأخواتي، تحت إشراف هذا الكلب المسعور الجاحد، والذي اكتشفنا بعد فترة أنه كان رتبة في مليشيا العصابة، وبعد أن اقتسم معهم كل هذه المقتنيات لم يسلم من حقده حتى جسد البيت الطاهر، الذي خرج منه وخرج معهم عشرات التلاميذ الذين تربوا في خلوته وديوانه حتى أكملوا الجامعات.
هل تصدق يا أستاذ أنه بعد أن سرق كل شيء، كل شيء، جعل ختام مسكه أن دخل على كل الطوابق وأضرم فيها النار؟ والله يا أستاذ إني لم أتحسر أبدًا على الذي حدث لنا ولثروتنا وبيتنا الكبير، مع أنه يغري ويحرض على التوجع والنحيب طيلة العمر، ولكن الذي دفعني للبكاء المر والنحيب، وتمزقت في نفسي الكثير من القيم التي نماها داخلي أبي ومجتمعي السوداني النبيل، ليس الثروة، إنما بكيت لأنني لم أصدق أن هذا الذي أرضعناه كل الكبرياء والكفاية والستر والإحاطة والشرف، يمكن أن يفعل فينا هذا.
ودخل الرجل الكريم في نوبة من البكاء العميق، فوجدت نفسي أواسيه وأربت على كتفه في عطف وتعزية، كأنه يتيم.
لا عليك يا صديقي، فإن الذي حدث لك حدث لكل السودان، مدينة مدينة، وبادية بادية، وحارة حارة، وشارعًا وسبيلًا وبيتًا بيتًا، حتى بيوت القرى في البوادي والمجاهيل والدساكر.
وبعد أن جفف دمعاته الموارّة بالانسكاب، وبنَفَسه المتصاعد في الهواء أنفاسًا من أسى وشجي وجمر وتمزق، قال لي:
هل الجحود والنكران والخيانة أصل، والغدر في بعض القبائل والإثنيات؟ أم أن هذا حكم صدر مني في لحظات غضب ويأس؟
قلت له: قد تكون هناك بعض هذه السمات الشريرة التي لا أصل لها ولا فصل إلا في بعض القبائل الطارئة على بلادنا، وهذه ليس لها من أخلاق هذا الشعب خُلق وإرث وحكمة ووسطية وفخر واعتدال. غير أن العشم في التوبة والإصلاح والتدين لم تنقطع بعد، فدعنا نحاول من جديد، قد يبدل الله أهلًا بأهل، وجيرانًا بجيران، رغم مرارة أبيات الحكيم الشعبي عكير الدامر وهو يطالبنا بالانتقاء فيمن نصادق ونجاور ونتحالف:
ود بيت المحل ما تجر معاه مودة
وما تنغشا بي (أصلو) الحجر ما أكندة
كل يوم الفرع لي أصلو ماخد مدة
مو قضاي غروض ود أبيدو قاطعة المدة
(والمعنى واضح)
صمتنا ولم نعلّق، فقد كان حزن الرجل أكبر من الصمت والتعليق، وافترقنا،
وعليك عزيزي القارئ أن تُكمل الحكاية، وأن تراسل كل من تحب في بلادنا ليبدأ الكتابة والتأليف، فكل عائلة في بلادنا، وكل أسرة، بل وكل فرد، له سرديات وحكايات، إذا كُتبت بإخلاص وتجرد واحترافية، فسيصبح مقام (ماركيز ونجيب محفوظ والطيب صالح) في آخر الطابور