حكاية تصلح للتداول والمؤانسة

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
حكاية تصلح للتداول والمؤانسة
كان الراحل الدكتور معتصم عبد الرحيم، رئيس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في أزهى عصورها ما بعد ود المكي، عالمًا ومثقفًا كبيرًا ومتواضعًا، كان مؤطأ الأكناف، وفوق ذلك كان مرجوًّا من إخوته لمهام عُظمى، ولكن يد القدر قد أخذته باكرًا، فعليه الرحمة.
كانت تجمعنا به صداقة وصحبة ومجالس قطعتها مشاغله الجسام في العمل العام، ومشاغل الصحافة التي لا تنقضي. ذهبت إليه مرة في مكتبه بوزارة التربية والتعليم، فأكرمني وأكرم تلك الزيارة، استقبلني ببشاشته المعهودة.
قلت له:
يشغلني جدًا يا دكتور معتصم أن المستوى الثقافي والمعرفي للطلاب السودانيين بالثانويات ضعيف وبائس، وهذا لا ينبئ بخير، حتى وإن نالوا من الأكاديميات ما نالوا؛ فالطالب بلا ثقافة ومعرفة وكتاب وطلاقة أفق لا يُرجى منه لذاته أو لبلاده.
وبمنهج (من هنا نبدأ)، فقد اجتمعنا نحن، مجموعة من الأصدقاء المهتمين والمنفعلين بالقضية، جئناك لنعرض عليك مقررًا للثقافة للمدارس الثانوية، وقد جمعنا فيه طائفة من عيون الشعر العربي، والشعر السوداني، وثقافة الأمثال والملاحم والطُّرف والحكايات ذات الدلالة، مع نصيب مقدّر من القرآن والسنة والسيرة والتاريخ، وأخبار الرجال والنساء من الصالحين والصالحات.
وأضفنا عليها بعض معارف الفرنجة ومترجماتهم من القصص والأشعار، وختمناها باختيار صورة قلمية لمجموعة من الشخصيات المؤثرة في التاريخ الإنساني. وكل ذلك أخذناه من المصادر الصحيحة، وجعلنا لكل مادة مقدمة وتوطئة. وسلمته كتابًا يحوي كل ما اخترناه وعلّقنا عليه.
شكرني جدًا على المساهمة، ووافقني على أهمية هذه المادة، وقال لي:
سوف أقرؤها وأرد عليكم بأعجل ما يكون.
قلت له:
نحن إن وافقت على الفكرة، لا نشترط أن تكون مادة المقرر هذه وقع الحافر على الحافر، ولكنها مجرد دراسة جدوى معرفية ابتدارية. وهذه مهمة وتكليف لا نريد من ورائها جزاءً ولا شكورًا، ولا مالاً ولا صيتًا ولا توثيقًا، بيد أننا رأينا أن أبناءنا يحتاجون لمثل هذه المعارف والمنتخبات، التي تصلح للحفظ والمؤانسة والتداول.
وإن حدث هذا أو بعضه، فسوف يمنحهم الكثير من الرحيق والعطر الداخلي، الذي يملأ هذه المجالس المُخَفّرة، التي تُعبّأ بالنكات البذيئة، والأقوال المارقة، والغيبة والنميمة، وأخبار الرياضة التي تهدر أوقاتنا، ولا تقوي عضلاتنا، ولا تهدينا إلا هذه الأحزان عبر تلك الهزائم المتتالية، وما السياسة والاقتصاد بأفضل من ذلك.
تركت عنده الكتاب وانصرفت مودعًا وسعيدًا بأني قد وجدت الرجل كما تركته منذ أيام الطلب، لم تغيّره الوظيفة، ولم تُبدله المواقع، لا في (الكابنت)، ولا في الحزب الحاكم.
وبعد أسبوع، وأنا بالصحيفة، هاتفني الرجل وقد ملأ الحبور صوته، وقال لي:
والله يا أخي حسين، لقد أمسكت بالسِفر ومختاراته حتى صلاة الفجر، وقد أعادت لي هذه الاختيارات والمقدمات الكثير من الطرب النفسي الذي أهدرته عَثَاء السياسة. ودليلي على هذا الاحتفاء أنني سأقرأ عليك حكاية الشاعر الكبير جرير مع الخليفة العادل المهيب عمر بن عبد العزيز، تلك الحكاية التي تنضح وتضج بالمعاني والقيم في الفصاحة والزهد والعدالة والاستقامة.
وعبر هذه القيم، كما تعلم، لم يجد الناس في حكم ابن عبد العزيز فقيرًا يمنحونه الزكاة، مع أن فترة حكم هذا الخليفة الراشد لم تبلغ الثلاث سنوات.
وأضاف:
ها أنا ذا أقرأ عليك الحكاية بعد أن حفظتها عن ظهر قلب.
وفعلاً قرأها بصوت مفعم بالحيوية والطلاقة، لم تَفُت عليه كلمة واحدة.
فقلت له مداعبًا بعد أن انتهى من قراءة النص:
يبدو أن ذكاء الرِبَاطَاب فيك يا سيادة الوزير لم تُضيّعه الأيام، ولا الليالي، ولا المنابر، ولا هجوم الصحافة والصحفيين.
رحم الله دكتور معتصم عبد الرحيم، وبارك في بنيه، فقد كان واحدًا من الإخوة الأفذاذ الذين ملأت سيرتهم الدنيا وشغلت الناس.
وإحياءً لهذه الذكرى، أبعث لكم بحكاية جرير صاحب الشعر الحرير، وعمر بن عبد العزيز، هذا الخليفة الذي أعاد العزة والشرف وذُهُوّ العدالة في دولة كاد أن يُسقطها البطر والتجاوز والترف والخصومات، وقد فعل ذلك السقوط المُزلزل، ولم يسمع أمراؤها تحذير العارف:
أرى تحت الرماد وميض نارٍ
وأخشى أن يكون لها ضرامُ
فإن النار بالعودين تُذكى
وإن الحرب أولها كلامُ
وقلت من التعجّب ليت شعري
أإيقاظٌ أميّة أم نيامُ؟
والقصة شهيرة، وقد أغراني حفظ الدكتور أن أكتبها من خاطري غيبًا، راجيًا العذر لو أني أخطأت في عبارة أو مفردة.
قال الشاهد: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه ، فأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم . فبينا هم كذلك وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن حيوة – وكان من خطباء أهل الشام – فلما رآه جرير داخلا على عمر أنشأ يقول:
يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئا ، ثم مر بهم عدي بن أرطاة ، فقال له جرير :
يا أيها الرجل المرخي مطيته هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
قال: فدخل عدي على عمر ، فقال: يا أمير المؤمنين ، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة ، قال: ويحك يا عدي ، ما لي وللشعراء ، قال: أعز الله أمير المؤمنين ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح وأعطى ، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ، قال:
كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه ، قال:
أو تروي من قوله شيئا؟ قال: نعم ، فأنشده يقول:
رأيتك يا خير البرية كلها نشرت كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالتبيان أمرا مدلسا وأطفأت بالقرآن نارا تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمدا وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه وكان قديما ركنه قد تهدما
تعالى علوا فوق عرش إلهنا وكان مكان الله أعلا وأعظما
قال: ويحك يا عدي ، من بالباب منهم؟ قال: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة ، قال: أوليس هو الذي يقول:
ثم نبهنها فهبت كعابا طفلة ما تبين رجع الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام
أعلى غير موعد جئت تسري تتخطى إلي رءوس النيام
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم على نفسه ، لا يدخل علي والله أبدا ، من بالباب سواه؟ قال: همام بن غالب يعني الفرزدق – قال: أليس هو الذي يقول:
هما دلياني من ثمانين قامة كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا أحي يرجى أم مثيل نحاذره
لا يطأ والله بساطي ، فمن سواه بالباب منهم؟ قال: الأخطل ، قال: يا عدي ، هو الذي يقول:
ولست بصائم رمضان طوعا ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عيسا بكور إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بزائر بيتا بعيدا بمكة أبتغي فيه صلاحي
ولست بقائم كالعير أدعو قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا وأسجد عند منبلج الصباح
والله لا يدخل علي وهو كافر أبدا ، فهل بالباب سوى من ذكرت؟ قال: نعم الأحوص ، قال: أليس هو الذي يقول:
الله بيني وبين سيدها يفر مني بها وأتبعه
فمن هاهنا أيضا؟ قال: جميل بن معمر ، قال: يا عدي ، هو الذي يقول:
ألا ليتنا نحيا جميعا وإن أمت يوافق في الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب إذا قيل قد سوي عليها صفيحها
فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحا ، والله لا يدخل علي أبدا ، فهل سوى من ذكرت أحد؟ قال: نعم جرير بن عطية ، قال: أما أنه الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب فليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان لا بد فهو ، قال: فأذن لجرير ، فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمدا جعل الخلافة للإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه حتى ارعوى فأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيرا عاجلا والنفس مولعة بحب العاجل
فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير ، اتق الله ولا تقل إلا حقا ، فأنشأ جرير يقول:
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت أم قد كفاني بما بلغت من خبري
كم باليمامة من شعثاء أرملة ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفي فقد والده كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأن به خبلا من الجن أو مسا من البشر
خليفة الله ماذا تأمرون بنا لسنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في هم يؤرقني قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ولا يعود لنا باد على حضر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حيا لا يفارقنا بوركت يا عمر الخيران من عمر
فقال: يا جرير ، ما أرى لك فيما ها هنا حقا ، قال: بلى يا أمير المؤمنين أنا ابن سبيل ومنقطع . فأعطاه من صلب ماله مائة درهم .
قال: وقد ذكر أنه قال له: ويحك يا جرير لقد ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلاثمائة درهم ، فمائة أخذها عبد الله ، ومائة أخذتها أم عبيد الله، يا غلام أعطه المائة الباقية.
قال: فأخذها وقال: والله لهي أحب من كل ما اكتسبته .
قال: ثم خرج ، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما لا يسركم ، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ولا يعطي الشعراء ، وإني عنه لراض ، وأنشأ يقول:
رأيت رقى الشيطان لا يستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقيا