الأيام الباكيات مابين الأزرق وغزة والفاروق

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
الأيام الباكيات مابين الأزرق وغزة والفاروق
(1)
في آخر مهاتفة بيني وبين الصديق الراحل السفير الدكتور عبد الله الأزرق، الذي يُعد واحداً من أبرز قيادات الخارجية السودانية عبر تاريخها: ثقافةً، وتجرداً، ووطنيةً، ومهنيةً، وانفتاحاً، حبيب ما بين العامة والنخبة، كان الراحل عبد الله الأزرق مؤسسة معرفية كاملة في عقلٍ وقلبٍ واحد، يُجيد العربية كاتباً وأديباً وشاعراً، وكان يُجيد الإنجليزية بذات الصفات. كتب في السياسة والتاريخ والفقه والإخوانيات ما يكفي لمكتبة كاملة، وكان فوق ذلك صاحب لطفٍ وظرفٍ وملاحة في القول والفعل، خاصةً وأنه تخرج من البيت الصالح الذي يتضوع عطراً من العلم والزهد والصوفية ما بين نار المجاذيب في الدامر ونور العاشقين بالصوفي الأزرق بالقضارف، ويا لها من أمكنة، ويا له من نور ونار، ويا لهم من رجال.
وبرحيل الدكتور عبد الله الأزرق تنطوي صفحة من صفحات الإشراق الوطني والمعرفي، وبفقده يفتقد السودان، في هذا المنعطف السياسي الهام والخطير، واحداً من أسطع العقول والأقلام التي دافعت عن عقيدتها وبلادها وقضايا العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بجسارةٍ وعلميةٍ واقتدار.
صبر الراحل الأزرق على وعثاء وضراوة المرض اللعين باحتمالٍ يفوق احتمال الجبال الراسيات، دون أن يتفوه بآهةٍ واحدة، وكان طيلة أيام هذه المكابدة يعطّر الجسد الناحل بآيات الذكر الحكيم والدعاء المأثور للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وحديث النفس الواثقة في حُكم الله، بالاعترافات الحميدة والوصايا الشفيفة المباركة، التي كان يوزعها بطمأنينة ورفق ليل نهار، على رفيقة دربه الصابرة الصامدة، الإعلامية مها فريجون، ابنة الأصول والقبائل والمعرفة، وعلى بناته وابنه أحمد، وريث الشرف وابن الأمجاد، الذين شرفوا وجه السودان في تخصصاتهم النادرة، وبثقافتهم المفتوحة، وبتواضعهم الجم، وهم يتمثلون بالاقتداء النبيل من شجرة هذه العائلة المباركة والوالد الأمة.
انتهت المهاتفة الأخيرة بيني وبينه، والتي لم تَستمر طويلاً لوهنٍ بائن في صوت الرجل القامة الصبور، كأن ما كان بهمسه هذا يُؤذِن بالمفارقة والرحيل والوداع، وقد واساني بأبيات كان دائماً ما يتأسى بها ويتعزّى، وهي للشاعر المقاتل الشهيد أبو الحسن التهامي، الذي مات في سجنه وهو يُردد بعض أبيات قصيدته الخالدة في الرثاء والصبر وفضائل الأخلاق والخُلق الوعر والمكرمات:
حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري
ما هَذِهِ الدُنيا بِدارِ قَرارِ
بَينا يَرى الإِنسانُ فيها مُخبِراً
حَتّى يُرى خَبَراً مِنَ الأَخبارِ
طُبِعَت عَلى كَدَرٍ وَأَنتَ تُريدُها
صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ
وَمُكَلِّفُ الأَيّامِ ضِدَّ طِباعِها
مُتَطَلِّبٌ في الماءِ جَذوَةَ نارِ
وَإِذا رَجَوتَ المُستَحيلَ فَإِنَّما
تَبني الرَجاءَ عَلى شَفيرٍ هارِ
فَالعَيشُ نَومٌ وَالمَنِيَّةُ يَقِظَةٌ
وَالمَرءُ بَينَهُما خَيالٌ ساري
وَالنَفسُ إِن رَضِيَت بِذَلِكَ أَو أَبَت
مُنقادةٌ بِأَزِمَّةِ الأَقدارِ
فاقضوا مآرِبَكم عُجالاً إِنَّما
أَعمارُكُم سِفْرٌ مِنَ الأَسفارِ
وَتَراكَضوا خَيلَ الشَبابِ وَبادِروا
إِن تُستَرَدَّ فَإِنَّهُنَّ عَواري
لَيسَ الزَمانَ وَإِن حَرَصتَ مُسالِماً
خُلُقُ الزَمانِ عَداوَةُ الأَحرارِ
نعم عزيزي الراحل الأثير عبد الله الأزرق، “لَيسَ الزَمانَ وَإِن حَرَصتَ مُسالِماً، خُلُقُ الزَمانِ عَداوَةُ الأَحرارِ”،
ولا خوفَ عليك سيدي، فقد كتب الزمان على شاهد قبرك نقشاً من نور:
“وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”.
(2)
جدول الضرب في حصة حساب الإبادة
دخل معلم الرياضيات الأممي، وأمر كل تلاميذ العالم أن ينهضوا وقوفًا، وقال لهم بصوتٍ صارم وحزين:
قولوا معي بصوت عالٍ:
١، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧، ٨، ٩، ١٠
١١، ١٢، ١٣، ١٤، ١٥، ١٦، ١٧، ١٨، ١٩، ٢٠
٢١، ٢٢، ٢٣، ٢٤، ٢٥، ٢٦، ٢٧، ٢٨، ٢٩، ٣٠
٣١، ٣٢، ٣٣، ٣٤، ٣٥، ٣٦، ٣٧، ٣٨، ٣٩، ٤٠
٤١، ٤٢، ٤٣، ٤٤، ٤٥، ٤٦، ٤٧، ٤٨، ٤٩، ٥٠
٥١، ٥٢، ٥٣، ٥٤، ٥٥، ٥٦، ٥٧، ٥٨، ٥٩، ٦٠
٦١، ٦٢، ٦٣، ٦٤، ٦٥، ٦٦، ٦٧، ٦٨، ٦٩، ٧٠
٧١، ٧٢، ٧٣، ٧٤، ٧٥، ٧٦، ٧٧، ٧٨، ٧٩، ٨٠
٨١، ٨٢، ٨٣، ٨٤، ٨٥، ٨٦، ٨٧، ٨٨، ٨٩، ٩٠
٩١، ٩٢، ٩٣، ٩٤، ٩٥، ٩٦، ٩٧، ٩٨، ٩٩، ١٠٠
هذا العدد يمثل:
١٠٠ قتيل من الأبرياء يوميًّا في غزة،
ومعهم ١٠٠ جريح غير صالحين للاستمرارية في الحياة،
و١٠٠ طفل مبتور غير صالح للعيش ولا للتعلّم،
و١٠٠ أرملة لا تصلح إلا للأحزان،
و١٠٠ شيخ لم يبقَ له إلا الأمل في المقابر،
وآلاف المجوَّعين الذين يموتون في الغد القريب بلا قطعة خبز ولا كوب ماء.
فإن لم يستطع آباؤكم أن يُناضلوا بألسنتهم بتلاوة الأعداد،
ولم تستطع حكوماتكم تعداد الأسماء،
فاحتملوا لباس الخزي والسقوط الأخلاقي المنقول مباشرة بالصوت والصورة،
وانتظروا يوم الحساب مع الصبح…
ألا إن الصبح لقريب.
خرج باكيًا، وتلفّت ملايين الأطفال لبعضهم البعض… حيارى.
(3)
من نوادر شاعرنا وعالم العربية الراحل محمد عبد القادر كرف، الذي درسنا على يديه العربية وآدابها في مدرسة أم درمان الأهلية، أنه كان يختار حصة أسبوعية يطلب من كل الطلاب اختيار نص شعري أو أدبي أو مثل أو فكرة من أمهات الكتب، ثم يأمرنا أن نقرأها بطريقة صحيحة ونختار لها عنواناً يساهم فيه الجميع.
ولأنه كان يصر على هذه الحصة، فقد أغرتنا بالاطلاع وفن الاختيار، بل إننا كنا نسجل كل الاختيارات في كراسة، مما أتاح لنا حزمة ضخمة من الاختيارات الوسيمة.
ومن الأقوال التي ما زالت حتى الآن في خاطري، اختيار أحد الأصدقاء لأحد مقولات الفاروق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال:
“لو نادى منادٍ من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم أجمعون إلا رجلاً واحداً، لخفت أن أكون هو، ولو نادى منادٍ: أيها الناس إنكم داخلون النار إلا رجلاً واحداً، لرجوت أن أكون هو.”
وقد تداول الطلاب في اختيار العنوان المناسب للمقولة، وكان العنوان الفائز، والذي أخذ عنه أحد الأصدقاء ديوان المتنبي، هو: “الفاروق بين كمال الخوف وجمال الرجاء.”
فهل يا ترى بقي من أساتذة العربية في مدارسنا من هم في موهبة وعلم ورصانة محمد عبد القادر كرف؟
ولي رجاء أخير: من كان له ديوان لكرف، فليرسله لنا هدية، فقد بدّد وأهدر الدَعامة مكتبتنا المقروءة والمسموعة والمشاهدة. نعم، أحرقوها، وليتهم يسرقون ولم يفعلوا، لأنهم لا يقرأون.