د. حسن مكي: السودان كنز للمستقبل لكنه مشدود للوراء بالعبء الإفريقي

المفكر الإسلامي د. حسن مكي:
السودان كنز للمستقبل لكنه مشدود للوراء بالعبء الإفريقي
أول شهداء بدر سوداني وأربع من سادات الجنة من السودان
يحتاج السودان إلى وقت ليشق مساره ويتأهب لمسؤولياته تجاه افريقيا والعالم
بعد اتفاقيات الاستسلام العربي، لم يبق أمام اسرائيل إلا حركة حماس والسودان وإيران!
من الترهات السائدة في أدب الصليبية أن معاقبة السودان جزء من المخطط الإلهي
من يحارب اسرائيل في هذه الأيام كأنما يحارب العالم
أجرى الحوار: عبد العزيز عبد الوهاب
من المحرر :
بينما كنت أتحضر لإجراء مقابلة صحافية شاملة مع البروفيسور والمفكر الراسخ حسن مكي محمد حول مجريات الأحداث في السودان حربا وسلما، وقراءة تداعياتها راهنا ولاحقا، ومدى صلتها بالداخل العربي/ الإسلامي والخارج الإنساني الذي يمور مورًا، وكيف سيصير حاله، حال عبوره لإمتحان الحرب العصيب .وبينما كنت ألملم أطرافي وأوراقي، تشاء الأقدار وتتلطف بي، حيث عثرت في خزانة مكتبتي على حوار لي مع البروف حسن منذ عقود ثلاثة، وتحديدا في مارس من عام 1995م ونشرته في (مجلة بلادي) التي أصدرها جهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج .
بيد أن المدهش والمثير حقا أن ذلك الحوار يتطابق حرفا وروحا مع ما كنت أنا بصدده اليوم . لتأكيد ذلك ؛ بيني وبينكم وبين البروف هذا الحديث الذي لم أزد فيه حرفا واحدا في كلام الرجل الممسك بتلابيب التاريخ ، ولم أجري فيه قلمي إلٌا في ما يليني من محاور الأسئلة التي يستقيم بها الحوار الذي يبدو كما لو أنه ابن اليوم . وتعميما للفائدة وإظهارا لفرادة تفكير المفكر وصدق رؤاه التي لا تصدأ ونجاعة حدسه الذي لا يتقادم، فإننا نعيد نشر الحوار اليوم في صحيفة ألوان.
+++++
كلما قرأت للدكتور حسن مكي انتظم تفكيري، فالرجل بحروفه الحية وتوصيفه الدقيق يمنع عنك (رهق) المسافات الطويلة في الشرح والتحليل، إلتقيناه هذه المرة بمكتبه بوحدة البحوث والترجمة بجامعة افريقيا العالمية، فحدثنا بلسان العارف الخبير عن الشأن السوداني والعربي والإسلامي، فإلى مدارات الحوار (الفكرة) .
++++
قد تأتي الرؤية تحليلية فاحصة من الخارج فلا تكاد تصيب هدفها المنشود، بسبب (غربتها) وقد تأتي ذاتية من الداخل، فلا تخلو من الأنا الضيقة. دكتور حسن مكي: كيف توفّق إلى تحديد ملامحنا؟
تختلف الرؤى التي تقيٌم الشخصية السودانية نتيجة لإختلاف أهل السودان؛ فالسودان (أفريقيا مصغرة) فيه تشكيلة من القبائل والمجموعات، ففيهم المدنيّون والبدويّون والجبليّون، كما فيه المناطق التي ظهرت فيها الحضارة (النوبة وكسلا) والتي يقال في بعض النظريات أن أصل الحضارة الإنسانية ظهر هناك .
لكن هذه النظرية ظلت مغمورة كأنما لا يراد لها أن ترى النور؟
من الطريف أنه حينما زار محمد علي باشا السودان عام ١٨٣٩ وقضى خمسة أشهر متجولاً بين ربوعه وصف الدنيا قائلاً: “هذه الدنيا مقسمة إلى خمس قارّات وليس فيها الأفارقة “.وأضاف : افريقيا سكانها هم الذين حُرموا من لذة المأكولات والمشروبات ومن فوائد التجارة و أرباحها .وقال :” إن أهل السودان لم يوفّقوا إلى سيد رحيم يوجه إليهم أنظاره و يشملهم برعايته منذ أن خلقهم الله إلى العصر الحاضر، فبقوا على الفطرة هائمين في وادي الحرمان ألى أن هبط عليهم محمد علي كالخضر من لدن الرب المجيد ” .وهكذا تتفاوت الرؤى بتفاوت المقاصد و السياسات . ولكن من المؤكد أن الجزء الذي توطدت فيه الحضارة الإسلامية من السودان، يسكنه إنسان أكرمه الله بمميزات عديدة منها الشهامة و الكرم والطيبة و المروءة و الاستعداد لتقبل النصيحة .
لكن هناك من يرى الشهامة والطيبة عيوبا لازمت السوداني حتى أقعدته؟
الإنسان السوداني شهد له النبي ﷺ في ليلة من خيرة الليالي وهي ليلة المعراج وذلك حينما قابل بلال وحده دون سائر البشر عند الملأ الأعلى مع الأنبياء والصديقين وبلال هنا (رمز لأفريقيا عامة و لأهل السودان خاصة) كما أن النبي ﷺ نفسه قد ترعرع ونشأ في حضن جارية إفريقية وهي بركة الحبشية التي كفلته في طفولته وكان يقول لها “أنت أمي بعد أمي” . ويقول عنها : “من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج بركة ” فتزوجها أحب الناس إليه زيد بن حارثة وأنجب منها (أيمن) والذي استشهد في غزوة تبوك ؛ كما أنجبت منه أسامة الحب ابن الحب . كما أنها هاجرت الهجرتين (الحبشة و المدينة) كما أن أول من استشهد في معركة بدر كان من أهل السودان ” مهجع ” وفي التراث المنسوب إلى الرسول الكريم ﷺ : أربع من سادات الجنة من السودان لقمان الحكيم والنجاشي وبلال ومهجع.
كأن السودان يتوسط الحدث يومذاك، أو كان شريكًا في صناعته؟
السودانيون كانوا أكثر خلق الله ابتلاءً، حين حان أوان البعثة النبوية وهم الذين تحملوا السياط والعذاب والطرد والضرب، لأنهم تركوا دين أسيادهم حتى وُصِف النبي ﷺ بأنه لم يتبعه إلا الأرذلون والموالي .
لكن هذا الرصيد الضخم لم يتم استثماره حتى اليوم؟
اليوم يستدير الزمان كهيئته و يتصدر أهل السودان باب الدعوة إلى الله، فكان أن أكرمهم الله بإقامة أول دولة إسلامية ، وإقامة المؤسسات الإسلامية اللاربوية و نشر اللغة العربية رغم ما هم فيه من الضغوط و الإبتلاءات والهامشية .
بسط السيطرة والنفوذ يستوجب إما قوة مادية (سلاح + اقتصاد) أو قوة معنوية مثل الهيبة الكامنة وراء (الكثرة) أو وراء عزمات النهوض كيف ترى السودان اليوم بإزاء هذه المحاور؟
السودان كنز للمستقبل وثروة مستقبلية، ففيه الرجال الأشداء الموحدون المخلصون، وفيه أقوى حركة إسلامية على مستوى العالم وفيه مصادر المياه والمعادن .وفيه ما فيه من فضل التجارة والكسب ولكنه كذلك مشدود للوراء بتحديات عظيمة . إذ هو مثقل بالعبء الإفريقي وبالقبيلة الافريقية والعشيرة الافريقية وما يكتنف افريقيا من تخلف وصراع وجوع وحركات نزوح ولجوء، والسودان فردوس الإسلام في افريقيا، ولكن تتزاحم دنيا افريقيا على هذا الفردوس تريد نصيبها.
تتحدث إذًا عن تبعات مثقلة يتحملها هذا البلد؟
افريقيا التي تتزاحم على أبواب السودان تطلب الهداية والكساء والغذاء، في وقت يهجم فيه العالم على السودان عن طريق حرب الجنوب ويهجم فيه العالم الصهيوني على السودان عن طريق الجيران وبالحرب الاقتصادية وبالحرب الاعلامية والنفسية والسياسية .
وهل من سبيل لتجاوز هذه الرزايا؟
السودان يحتاج إلى وقت حتى يشق مساره وحتى يتأهب لمسؤولياته تجاه افريقيا والعالم، ويكفي انه بعد اتفاقيات الاستسلام الفلسطيني والأردني والاستسلام الخليجي لم يبق أمام اسرائيل إلا حركة حماس والسودان وإيران .
كأنك تشير إلى مستقبل يلفه الغموض وربما الحروب؟
من يحارب اسرائيل في هذه الأيام كأنما يحارب العالم . لأن العالم اليوم عبارة عن مشروع صليبي صهيوني، ومن الترهات السائدة في أدب الصليبية أن معاقبة السودان جزء من المخطط الإلهي . ولذلك الصليبيون يستندون على رؤية أحد أنبياء بني اسرائيل في سفر (أشعياء) الفقرة الثامنة عشر، بأن الله سيعاقب السودان أو (كوش) ولذلك فإنهم حينما يحبكون المؤامرات ويشعلون الحروب إنما يتعبدون بذلك.
المشرق العربي هذه الشجرة المثمرة، حيث مهابط الوحي ومنبت الرسالات ؛ ثم تراكمات الغنى، ماله يتراجع اليوم كما تراه إلى المقاعد الخلفية؟
المنطقة المباركة هي ليست منطقة الشام والحجاز فحسب ؛ ولكن المنطقة ما بين النيل والفرات هي منطقة مباركة لأنها المنطقة الإبراهيمية والتي ظهر فيها الأنبياء والتي رآها النبي ﷺ حينما رأى النيل من المصب إلى المنبع . فبقدرما ظهر الأنبياء في الحجاز والشام كذلك ظهروا في وادي النيل ؛ فيوسف بُعث نبيا في وادي النيل كما بعث موسى في وادي النيل ورسالة عيسى عليه السلام إنما هي فصل في الكتاب الموسوي وتوصلة للبرنامج الموسوي .
وهل يعيد التاريخ سيرته الأولى ونشهد أمة تدعو وتقود أم تأتي النُصرة من الأطراف؟
صحيح أن خاتم النبيين ظهر في الحجاز و نزل القرآن في الحجاز و لكن هذا القرآن قُرئ في وادي النيل ؛ و ربما تجد قريةً واحدةً في وادي النيل فيها من الحفظة ما يعادل كل حفظة القرآن في منطقة نجد .وكل علوم القرآن كُتبت و حُفظت في وادي النيل و الشام و ما وراء النهرين ( محور بغداد_ أصفهان_ سمرقند ) و من العجيب أن روايات القرآن السبع بعد العشر؛ إنما وصلت عن طريق العجم و أشهر رواة الحديث مثل البخاري و مسلم و الترمذي و غيرهم ليسوا من أهل المركز .
وما القيمة التبادلية بين المركز والأطراف لقيادة راية الإسلام؟
مفهوم الطرفية والمركزية مفهوم متحرك فالمركز متحرك، فذات يومٍ كان المركز في مكة ثم انتقل إلى المدينة ثم إلى دمشق ثم استقر في بغداد، ثم انتقل إلى المدينة ثم إلى دمشق واستمر في بغداد . ثم انتقل إلى القاهرة وقرطبة ثم عاد إلى القسطنطينية استانبول وهذه دورة، لذا فليس من المستبعد أن يستقر المركز في الخرطوم أو الجزائر أو طهران أو غيرها . فحيث ما سادت كلمة (لا إله إلا الله) تبعها المركز .
ما أُخذ من العرب بالسلاح عجزوا عن استرداده بالسلاح؛ وما أُخذ منهم بالسلام هم اليوم أعجز عن استرداده، كيف نوفق إلى معادلة: الحد الأعلى من السلاح + الفكر المدهش؟
قوام البعث الجديد و جوهر البعث الجديد هو الإنسان المسلم ؛ فالإنسان المسلم قد يبدو سلعة غالية و لكنه هذه الأيام أكثر بروزاً مما كان عليه قبل أكثر من عشرين سنة. تجول في شوارع القاهرة ستجد أنها تخلت في جزء كبير منها عن الموضة وعن إطلاق التعري وأسلمت أمرها إلى الله، و ما تراه في القاهرة تراه في الجزائر وطنجة ونجد والشام فهناك عودة كبيرة إلى الله سبحانه وتعالى . ومواكب التوابين و الأوابين هي التي ستفتح فلسطين ( بحجره المقدس ) الأمر الذي لم تفعله الدبابة و الجيش النظامي ؛ فالجيش النظامي الذي يُنفَق عليه المليارات قد جرنا في النهاية إلى التبعية و إلى هزيمة ١٩٤٨ م و هزيمة ٥٤ وهزيمة ٦٧ ثم استسلام كامب ديڤيد ثم خاتمة الملهاة في غزة وأريحا ولكن الطفل والحجر بقيا الأصل .
هذا يعني أن هناك معادلة جديدة في المواجهة، ربما يكون عنوانها الحجر وليس سواه؟
أصبح الطفل الفلسطيني بحجره يشكل أكبر خطر على اسرائيل، فكيف إذا تعزز طفل الحجر ببروز محيط إسلامي وعائلة من الجمهوريات الإسلامية في السودان واليمن والجزائر .
لماذا الجزائر تحديدًا؟
يخاف الغرب من الجزائر لأن طارق بن زياد ومعه ٤٠٠ محارب استطاعوا فتح الأندلس ؛ فكيف حال اسبانيا وفرنسا في مجابهة الإنقاذيين وهم بالملايين . ولذلك ما علينا إلا الصبر _ يقول تعالى : { وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئمَّةࣰ یَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُوا۟ۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یُوقِنُونَ } [سُورَةُ السَّجۡدَةِ: ٢٤].