حكاية من التراث نقرأها مع وزير الدفاع ووزير الشؤون الدينية ومدير المخابرات

ولألوان كلمة:

حسين خوجلي
حكاية من التراث نقرأها مع وزير الدفاع ووزير الشؤون الدينية ومدير المخابرات

* أذكر أنه، بعد تخرجنا من الجامعة، دعانا أحد الأصدقاء لوجبة غداء في منزلهم العامر حي العرب بأم درمان. كانت المناسبة عقد قران شقيقه الأكبر، فلبينا الدعوة، وما كنا نحتسب أو نتوقع أن هناك مفاجأة تنتظرنا. كنا سبعة من الأصدقاء؛ خمسة منا من خريجي كلية الآداب بتخصصاتها المختلفة في الأدب، واللغات، والنحو، والفلسفة، واثنان من خريجي القانون والشريعة، وآخر في التاريخ.
بعد الغداء، تأنسنا مع والد صديقنا، وهو تاجر توابل بسيط بسوق أم درمان. رحب بنا وتعرف علينا، وبدأ يدير أطراف الحديث بلطف ظاهر، وثقة، وثقافة، وحضورٍ آسر. سألنا تباعًا عن تخصصاتنا، وبدأ يفيد ويفض في كل منها بمعلومة أو طرفة أو سؤال، ثم فاجأنا بقوله: “هل تحفظون عُمدة ما أُلقي عليكم من علوم وأفكار وكتب وأسفار؟” أجبنا جميعًا: “نعم”. لكن تلك الـ “نعم” كانت بوابة الورطة، أو قل الكارثة!
سأل أحد الأصدقاء، من خريجي الآداب، عن قصيدة لأبي العلاء المعري، فوجده لا يحفظها. وسأل خريج النحو عما قاله ابن مالك في المبتدأ والخبر، فلم يُجبه. أما أنا، فسألني عن مرتكزات المعتزلة، فأجبت عن ثلاثة منها، ولم أستذكر البقية. ثم توجه بسؤاله إلى خريجي الشريعة والقانون عن الأحكام وعلماء الصحابة والتابعين وأهل الفقه والتأويل، فقالوا له إن الأمر متشعب. فابتسم وسألهم سؤالاً محددًا عن حبر الأمة وترجمان القرآن، سيدنا عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله ﷺ، وأصغر الصحابة سنًا، وأوسعهم علمًا واجتهادًا.
كنا نظن أن صاحبنا سيبيض وجهنا ويجيب، غير أنه أطلق مجموعة من العبارات الفضفاضة، لا حفظ فيها ولا ضبط. وعندها، وعلى طريقة “البيان بالعمل”، بدأ تاجر التوابل الأم درماني يفيض علينا بعلم غزير وحفظ مذهل، لا تكاد تفلت منه مفردة أو معلومة.
* بدأ بتعريف ابن عباس، كأنه يقرأ من كتاب: “هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، (3 ق.هـ / 618م – 68 هـ / 687م)، صحابي جليل، محدث، فقيه، حافظ، ومُفسِّر. هو ابن عم النبي محمد ﷺ، وأحد المكثرين لرواية الحديث، إذ روى 1660 حديثًا عن الرسول، وله في الصحيحين 75 حديثًا متفقًا عليها.
لازم النبي ﷺ، وروى عنه، ودعا له قائلاً: “اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل”، وقال أيضًا: “اللهم علّمه الكتاب، اللهم علّمه الحكمة.”
توفي النبي ﷺ وابن عباس في الثالثة عشرة من عمره، ثم واصل تفسير القرآن حتى لُقِّب بـ حَبر الأمة وترجمان القرآن، والحبر: العالم، والبحر: الغزير.
طلب العلم والحديث من الصحابة، وقرأ القرآن على زيد بن ثابت وأُبيّ بن كعب، وكان يسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من الصحابة.
وكان له مجلس كبير في المدينة، يُقسمه لأيام ودروس: يوم للفقه، يوم لتفسير القرآن، يوم للمغازي، يوم للشعر، ويوم لأيام العرب. وقد روى في المجمل 1660 حديثًا، وله في الصحيحين 75 حديثًا متفقًا عليها. تفرد له البخاري بـ 110 أحاديث، وتفرد مسلم بن الحجاج بـ 49 حديثًا.”
* فلما انتهى من التعريف الجامع المانع لحبر الأمة، قال: “إني قد قطعت لكم نصف الطريق، فهل تعرفون شيئاً عن فقهه، وعلمه، واجتهاده، وجرأته؟” فسكتنا، لأن الإجابة كانت ستكون مدمرة، خاصة أن الكثير من أهل الدعوة قد أحاطوا بنا يستمعون، يريدون معرفة نهاية المباراة غير المتكافئة.
قال تاجر التوابل الأم درماني الفصيح والعالم: “إن فقه، وعلم، وفطنة ترجمان القرآن ابن عباس، مما تمتلئ به بطون الكتب ومتونها وشروحها، إلا أني سأحدثكم بواحدة، على أن تعاهدوني أن تعاودوا القراءة، والحفظ، وتجويد العلم، كأنكم في بداية عمركم الجامعي. فإن علماً لا حفظ فيه، ولا تدبر، ولا استدلال، سيعرضكم للسخرية، إن لم ينل من شرفكم العلمي وشهاداتكم. وقد (أكلناها) مرغمين ونحن نترقب الحكاية.
قال: “إنها حكاية عبد الله بن عباس مع الحرورية، وهم الخوارج، أصحاب العبادة، والنسك، والصلاة، والصيام، من الذين تحقرون عبادتكم بعبادتهم، وصلاتكم بصلاتهم، وصوكم بصومهم، لكنهم يخرجون من الدين كما قال المصطفى، كما يخرج السهم من الرمية.”
قال: “الشاهد أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرجت الحرورية اجتمعوا في دار، وهم ستة آلاف. أتيت عليًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، أبرد بالظهر، لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم.
قال: إني أخاف عليك.
قلت: كلا.
فخرجت إليهم، ولبست أحسن ما يكون من حلل اليمن” — قال أبو زميل: “كان ابن عباس جميلًا جهيرًا” — قال ابن عباس:
فأتيتهم، وهم مجتمعون في دارهم، قائلون، فسلمت عليهم، فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، فما هذه الحلة؟
قلت: ما تعيبون علي؟ لقد رأيت على رسول الله ﷺ أحسن ما يكون من الحلل، ونزل قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾
قالوا: فما جاء بك؟
قلت: أتيتكم من عند أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار، لأبلغكم ما يقولون. فهم أعلم بالوحي منكم، فعليهم نزل القرآن، وفيهم أنزل، وليس فيكم منهم أحد.
فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشًا، فإن الله يقول: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾
قال ابن عباس: وأتيت قومًا ما رأيت قومًا قط أشد اجتهادًا منهم. مسهمة وجوههم من السهر، كأن أيديهم وركبهم تثنى عليهم. فمضى من حضر، فقال بعضهم: لنكلمنه ولننظرن ما يقول.
فقلت: أخبروني، ماذا نقمتم على ابن عم رسول الله ﷺ، وصهره، والمهاجرين والأنصار؟ قالوا: ثلاثًا. قلت: ما هنّ؟ قالوا: أما إحداهن، فإنه حكم الرجال في أمر الله، وقال الله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾، فما شأن الرجال والحكم؟ وأما الثانية، فإنه قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، فإن كان الذين قاتلهم كفارًا، فقد حلّ سبيهم وغنيمتهم، وإن كانوا مؤمنين، فما حلّ قتالهم؟ والثالثة، أنه محا نفسه من لقب “أمير المؤمنين”، فهو إذًا أمير الكافرين.
قلت: أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا. فقلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله، ومن سنة نبيه ﷺ، ما يرد به قولكم، أترضون؟
قالوا: نعم. فقلت: أما قولكم: “حكم الرجال في أمر الله”، فأنا أقرأ عليكم ما قد ردّ الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم في أرنب، ونحوها من الصيد، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ إلى قوله: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾
فأنشدتكم الله، أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل، أم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟ ثم قال تعالى عن المرأة وزوجها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ فجعل الله حكم الرجال سنة مأمونة. أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم ، قال: وأما قولكم: “قاتل ولم يسبِ ولم يغنم”، أتسبون أمكم عائشة، ثم تستحلون منها ما يُستحل من غيرها؟ فلئن فعلتم، لقد كفرتم، وهي أمكم.
ولئن قلتم: ليست أمنا، لقد كفرتم، فإن الله يقول: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ فأنتم تدورون بين ضلالتين، أيّهما صرتم إليها، صرتم إلى ضلالة.
أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قال: وأما قولكم: “محا اسمه من أمير المؤمنين”،
فأنا آتيكم بمن ترضون، ألم تسمعوا أن النبي ﷺ يوم الحديبية، كاتب سهيل بن عمرو وأبا سفيان بن حرب، فقال رسول الله ﷺ لعلي: “اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله”، فقال المشركون: لا والله، ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم ذلك ما قاتلناك! فقال رسول الله ﷺ: “اللهم إنك تعلم أني رسولك. اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله.” فوالله لرسول الله خير من علي، وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه. قال ابن عباس: فرجع من القوم ألفان، وقُتل سائرهم على ضلال”.
* انتهت إفادة التاجر البسيط، العالِم، الفقيه، والأديب، وتركنا نتساءل بعد خروجنا: ترى، من أين جاء هذا “التشاشي” البسيط بكل هذا العلم والمعلومات؟ لقد اتفقنا جميعًا على أن كل ذلك كان ثمرة من ثمار الخلوة، تلك المؤسسة المباركة التي خرجت آلاف الدعاة، والفقهاء، والأئمة، وأهل القرآن والتفسير وشعراء الحقيبة والمادحين. الخلوة التي أبدلناها نحن اليوم بتقليد “الفرجنة”، ببدعة “رياض الأطفال”! فـ”خلوة الصبي” كانت تُخرج أطفالًا حفظوا القرآن، وأتقنوا اللغة، والحساب، والرصانة، والتدين اليافع. أما “الروضة”، فقد خرجت أطفالًا ليس لهم من اللغة إلا بضع عشرات من المفردات، جلها من العامية الرخيصة، والأخيلة المرهقة، والحكايات المتواضعة المضحكة، مثل حكاية “الضفدعة الخضراء”، و”الكتكوت الأشقر”. وإن تعلّموا بعدها، فإن زادهم الابتدائي يبدأ بـ”طه القرشي في المستشفى”، أما المراهقين فأن حظهم من الثقافة السودانية والعالمية “الأخيلة”، و”الاستشراف” فمصيره إلى غرفة الإنعاش .. تلك التي ينتظرها تراب “أحمد شرفي” و”البكري” في شغف!.
وإن كان لي أن أهدي هذه الحكاية – حكاية سيدنا عبد الله بن عباس في حواره مع الخوارج – فإنها مهداة إلى: وزير الدفاع أبن الكلية الحربية الودود الولود وأبن السودان المقاتل لصالح الشعب بلا قبيلة ولا تصنيف، الفريق حسن داؤود كبرون، ومدير المخابرات الفريق أحمد إبراهيم مفضل، ووزير الشؤون الدينية بشير هارون عبد الكريم. ولو سأل سائل: “لماذا هؤلاء الثلاثة بالتحديد؟” فالجواب أن النصر الذي تحقق في ذلك الزمان الوضيء كان بثلاثية عظيمة: بسيف علي بن أبي طالب، وزير الدفاع، وبفطنة حذيفة بن اليمان، مدير المخابرات. وبعلم عبد الله بن عباس، صاحب الفتوى والحوار الرصين، والشؤون الدينية التي لا انفصام بينها وبين شؤون الحياة.
هذه الثلاثية، هي التحالف الوحيد الذي سيُبقي على السودان عزيزًا، سيدًا، موحدًا، منتصرًا. وإذا كان ثمة مسك ختام لهذه النصيحة، فهو: تدبّروا ما حدث لإيران، بكل تجربتها وعراقتها، فقد هزمتها المخابرات، والموساد الذي تسلل إلى مفاصلها، وهي غافلة. وعلى الفريق أحمد مفضل، المشهود له بالشجاعة، والكفاءة، والمهنية، والتجرد، والوطنية، أن يفتح أبوابه لتأسيس أكبر وأخطر جهاز مخابرات في أفريقيا والعالم العربي، فإن كانت أجهزة المخابرات في العالم العربي والأفريقي مجرد “إكسسوار”، فإنها، في هذا السودان الجديد، وسيلة، وغاية، وقيمة، وتنمية، وشرف، والكبرياء الوطني الذي لا ولن تهزه رياح العمالة والإرتزاق.