“على طريق العودة”.. آلاف السودانيين يغادرون القاهرة في موجة عودة طوعية إلى الوطن

“على طريق العودة”.. آلاف السودانيين يغادرون القاهرة في موجة عودة طوعية إلى الوطن

منظومة الصناعات الدفاعية تسهم في عودة الآلاف

دموع وأمل في الطريق إلى السودان .. عودة محفوفة بالكرامة والانتماء

“أنا والد شهيدين”.. من الغربة إلى درب الشهداء وخدمة الوطن

24 بصًا تقل عائدين من القاهرة إلى ولايات السودان المختلفة

القاهرة: خضر مسعود
في مشهدٍ تختلط فيه الدموع بالابتسامات، انطلقت عشرات البصات من العاصمة المصرية القاهرة، تقل مئات السودانيين العائدين طوعًا إلى وطنهم بعد رحلة اغترابٍ قاسية فرضتها ظروف الحرب. لم تكن مجرد رحلة سفر، بل عودة إلى الجذور، إلى البيوت، وإلى ما تبقى من ذاكرة الوطن.
رغم أن المعاناة ظلت حاضرة على الوجوه، فإن الفرح غلبها، وتجلّى في كلمات العائدين التي شعّت بالأمل والانتماء والعزم على المساهمة في إعادة بناء السودان.
برزت العديد من المبادرات الداعمة للعودة الطوعية، لكن تميزت من بينها مبادرة “راجعين” التي أطلقتها منظومة الصناعات الدفاعية عبر إدارة المسؤولية المجتمعية في مرحلتها الثانية، تحت شعار: “سنعيد حياتنا.. نعيد بناء مجتمعنا”. وبين أمتعة السفر وأصوات الدعوات، كانت العيون تلمع بفرحة اللقاء المنتظر، وقلوب الركاب تخفق على إيقاع الحنين لتراب الوطن.


+ لحظة وداع .. وبداية رجوع

في محطات التجمع المخصصة لانطلاق البصات، اصطف العائدون في مشهد مهيب يعبر عن وحدة المشاعر. حمل كل منهم شيئًا من الذاكرة… وشيئًا من الأمل. الأمهات يضممن أبناءهن، والشباب يتبادلون التحايا والضحكات، بينما يجلس كبار السن بصمت تغمره الدهشة والرضا.
اشتمل هذا الفوج 24 باص ؛ تحركت منها 5 بصات ترحكت يوم السبت إلى مدينة عطبرة، فيما انطلقت 19 باص يوم الأحد متجهة إلى: الخرطوم (الميناء البري)، الهلالية، المسعودية، العقليين، مدينة بحري، الجموعية والعيلفون.


+ تنظيم وتنسيق محكم

جرت عملية الانطلاق وسط ترتيبات دقيقة، أشرفت عليها منظومة الصناعات الدفاعية بالتنسيق مع السلطات المصرية وعدد من المبادرات المجتمعية، حيث سُهّلت إجراءات السفر، ووُفرت الاحتياجات الأساسية من ماء وغذاء، مع ضمان سلامة الرحلة حتى لحظة الوصول.


+ فرح مؤجل يسبق اللقاء

ورغم أن الطريق طويل والرحلة شاقة، كانت المعنويات في أعلى مستوياتها. فالعائدون لا يحملون معهم أمتعتهم فقط، بل يحملون شوقًا عميقًا للعودة إلى أرض الأهل والجذور.


+ قاضي محكمة عليا: العائدون من القضاة والعاملين بالسلطة ركائز العدالة

وفي حديثه لصحيفة ألوان ، قال د. زياد إسماعيل عبد الكريم، قاضي المحكمة العليا ومنسق العودة الطوعية للعاملين في السلطة القضائية، إن عودة السودانيين من القاهرة تمثل “خطوة إيجابية ومبشرة”، مؤكدًا أن منظومة الصناعات الدفاعية قدمت جهدًا مقدّرًا في سبيل تيسير هذه العودة، معتبرًا أنها “راعت همّ البلد في ظرف استثنائي.” وأضاف: “في السلطة القضائية فوجنا بص واحد سابقًا، أما اليوم، وبفضل جهود المنظومة، لدينا ثلاث بصات مخصصة للعاملين في القضاء من قضاة وموظفين وعمال وأسرهم. هؤلاء يشكلون ركائز العدالة في البلاد، فهم أساس بناء دولة القانون، إلى جانب الشرطة القضائية.” وأشار إلى أن المنظومة تكفلت بكامل تفاصيل الرحلات، من توفير الوجبات ورسوم المعابر، إلى الإجراءات التنظيمية، مشيدًا بروح المسؤولية التي أبدتها في دعم جميع القطاعات، وليس فقط المواطنين العاديين.
وأكد د. زياد أن جميع العائدين “تعرّضوا لنكبة، ونهبت ممتلكاتهم، ومع ذلك فهم عائدون بخيارهم لخدمة الوطن وبنائه.” وأضاف: “أعتقد أن الناس عرفوا قيمة الوطن، وماذا يعني أن تخرج منه قسرًا وتفقد كل شيء. واليوم، سيعودون أكثر وطنية وعزيمة. فلا أحد يبني لك بلدك إن لم تفعل ذلك بنفسك.”
وختم كلمته بتوجيه الشكر إلى منظومة الصناعات الدفاعية، متمنيًا أن يكون هذا العمل في ميزان حسناتهم، ومؤكدًا أن “البلد لا يُبنى إلا بأهله، وأن الإرادة الحقيقية بدأت تتشكل من جديد في قلوب العائدين.”


+ الطيب دفع الله: أنا والد شهيدين… وعودتي للسير على دربهما وخدمة الوطن

من بين الركاب العائدين إلى السودان، كان المواطن الطيب دفع الله محمد العوض، والد الشهيدين الشامي والشاذلي، اللذين استُشهدا في حرب الكرامة دفاعًا عن الوطن. بكلمات يغمرها الحزن الممزوج بالفخر، عبّر عن امتنانه للجهات المنظمة لرحلات العودة، قائلاً إن ما تم إنجازه هو “عمل كبير، وما ساهل.”
وقال الطيب دفع الله: “كنت في حيرة من أمري، لا أعرف كيف أعود أنا وأسرتي، حتى صادفت شبابًا سودانيين دلوني على منظومة الصناعات. ومنذ لحظة وصولي وجدت الترحاب والتسهيلات الكاملة. لم أكن مصدقًا حين حضرت، والحمد لله الآن نعود ونحن راضون تمامًا عن كل من ساهم في هذا الجهد.”
وتحدث عن أوضاع الأسر السودانية في الغربة، قائلاً: “بعض العائلات وصلت إلى مراحل صعبة، تجد الرجل جالسًا مع أسرته في حيرة ولا يجد من يعينه. الناس محتاجة للوقفة الصادقة، والبلد لا تعمرها الحكومة وحدها، بل يعمرها أهلها.”
وعن دوافع عودته، قال: “أنا والد لشهيدين، وعودتي اليوم ليست فقط للرجوع إلى الوطن، بل للسير على درب أبنائي، والبحث عن حقوق أسر الشهيدين. وأرجو من المسؤولين في القوات المسلحة مراعاة هذه الأسر، وتقدير تضحياتها.”
وشكر عم الطيب كل من ساهم في رحلة العودة وأردف: “جزى الله القائمين على أمر العودة خير الجزاء، فقد أعادوا لنا شيئًا من الكرامة التي افتقدناها حين خرجنا من بلادنا، واليوم نعود لنبدأ من جديد.”


+ الحاجة خديجة: رجلي سبقتني للسودان

وبينما كانت تستعد لركوب البص، قالت الحاجة خديجة محمد، وهي تحاول كتم دموعها: “سنتين وأنا في الغربة، لكن قلبي ما فارق السودان يوم. واليوم حاسة إنو رجلي سبقتني ليهو” نفسي في قعد الحوش الكبير ولمة الأهل والجيران، الحاجة خديجة وسط دموعها حكت مالم تقله الكلمات، وعبرت عن فرحتها بالعودة بتلك العبرات التي يخالطها الدعاء للوطن ومن جعل طريق العودة ممكنناً.

 

+ الفريق شرطة محمد الحسن: ضابط الشرطة المتقاعدين شريك فاعل إعادة الأمن بعد الحرب

من جانبه، قال الفريق شرطة محمد الحسن، رئيس لجنة ضباط الشرطة المتقاعدين بمصر، إن التعاون بين اللجنة ومنظومة الصناعات الدفاعية بدأ منذ أولى رحلات العودة الطوعية، قبيل عيد الأضحى، واستمر بشكل منتظم حتى الآن.
وأضاف في حديثه: “كان لنا الشرف أن نكون ضمن أوائل المشاركين في التفويج، ومنذ ذلك الوقت أصبح لدينا رحلة أسبوعية مخصصة للضباط المتقاعدين وأسرهم، إلى جانب المواطنين السودانيين من مختلف الفئات، وذلك بحكم دور الشرطة ومسؤولية ضباطها تجاه مدنهم وقراهم.” وأشار إلى أن اللجنة نسّقت رحلات إلى عدد من المدن السودانية، من بينها: القطينة، الهلالية، المسعودية، عطبرة والخرطوم، موضحًا: “اليوم، على سبيل المثال، لدينا بصات متجهة إلى الميناء البري الخرطوم، وبصين إلى الهلالية، وبص إلى كسلا. وحتى الآن، قمنا بتسيير أكثر من 70 بصًا، وعدد ضباط الشرطة الذين كانوا ضمنها لا يتعدي 50 ضابطًا متقاعدًا مع أسرهم.”
وأكد الفريق الحسن أن دور الضباط المتقاعدين لا يقتصر على أسرهم فقط، بل يمتد ليشمل مسؤولية اجتماعية تجاه المجتمع ككل، مضيفًا: “الناس تثق في ضباط الشرطة، وهذا ما يجعلنا نُسهم في تنسيق رحلات العودة لكافة المواطنين. لدينا أكثر من ألف ضابط متقاعد يقيمون في مصر مع أسرهم.”
وحول المرحلة المقبلة، شدد على أهمية دور الشرطة في إعادة ترتيب الأوضاع الأمنية والمجتمعية في السودان، قائلاً: “الشرطة في الميدان عنصر أساسي في إعادة ضبط الحياة. ومن المهم أن يشارك الضباط المتقاعدون، عبر إدارة خدمات الضباط المتقاعدين بوزارة الداخلية، في دعم الشرطة المجتمعية والمساعدة في استعادة الأمن والانتشار النظامي، بما يسهم في استقرار البلاد وإعادة إعمارها.”


+ لا بديل للوطن… والعودة بداية الإعمار الحقيقي

 

وسط مشاعر الفرح التي غمرت العائدين، وقفت لمياء الطيب، إحدى المواطنات العائدات إلى مدينة الجيلي ببحري، تعبّر عن إحساس لا يمكن وصفه، قائلة: “نحن في قمة السعادة. وصلنا إلى مصر قبل أكثر من عام ونصف، وعشنا في ظروف صعبة. والآن، أخيرًا نعود إلى بلدنا، إلى الجيلي، إلى بيتنا.” وأضافت: “كنت أتمنى فقط أرجع إلى بيتي، أستقر فيه وأصلحو بإيدي. كنا ما قادرين نرجع، والظروف هنا قاسية جدًا. ما في راحة، وكنا ننتظر تحرير البلد عشان نرجع إلى بيوتنا.” وعن شعورها بالانتماء، قالت: “لا يوجد بديل للوطن غير الوطن. بلدنا بلد خير، ولو ما رجعنا وساعدنا في إعمارها، ما حتقوم. الوطن محتاج ليد أبنائه وبناته. ومهما قدمت لينا الغربة، ما زي بلدنا.”

+ العودة للمساهمة في إعادة الإعمار

من جانبه، قال الأستاذ محمد أحمد جاد الكريم، من منسوبي السلطة القضائية ومشرف أحد البصات، إن عملية العودة الطوعية تمت بسلاسة، بفضل جهود منظومة الصناعات الدفاعية التي وفّرت “كل سبل الراحة والتنظيم.” وأوضح أن هذا اليوم يشهد تفويج ثلاث بصات تقل أسر القضاة والعاملين بالسلطة القضائية في طريقهم إلى الخرطوم وبحري، مضيفًا: “نشكر المنظومة لتعاونها الكامل في توفير هذه البصات، وتسهيل كافة الإجراءات، من أجل تمكين السودانيين من العودة إلى الوطن، والإسهام في إعادة بنائه وإعماره.”

+ المنظومة ذللت كل الصعاب

وفي ذات السياق، قال الأستاذ أزهري محمد عثمان، منسق العودة الطوعية إلى مدينة الهلالية، بأنهم قاموا خلال الفترة الماضية بتفويج عدد كبير من الأسر، بفضل التسهيلات المقدمة من المنظومة، والتي وصفها بأنها “رفعت عنهم كل المشقة.” وقال: “نحن الآن في طريقنا ببصين يقلّان نحو 100 شخص إلى الهلالية، وقد تم توفير كل الخدمات اللازمة على الطريق. الرحلات مجانية بالكامل من القاهرة إلى الهلالية، شاملة الوجبات ورسوم العبور في الكتيبة.”
وختم حديثه بالقول: “هذا عمل كبير، والمنظومة ما قصّرت معانا. جزاهم الله خير على ما قدموه لأسرنا وأهلنا.”

+ مواهب حسن: إحساس العودة لا يوصف… والمنظومة رفعت عبئًا كبيرًا عن الأسر

وسط أجواء مشحونة بالعاطفة والفرح الذي تخالطه الدموع، عبّرت المواطنة مواهب حسن عن مشاعرها قائلة: “إحساس العودة للوطن إحساس جميل لا يوصف… رجفة القلب مع كل متر نقترب فيه من السودان ما بتتكتب، دي حاجة بتتعيّش.” وزادت: أن منظومة الصناعات الدفاعية أسهمت في تخفيف معاناة كبيرة عن كاهل الأسر السودانية، قائلة: “ناس المنظومة شالوا عن الناس عبء كبير، بتوفير البصات وتيسير سبل العودة مجانًا. نحن صراحة ما كنا مصدقين، لأننا جربنا التسجيل مع مبادرات كثيرة سابقة، وكانوا يطلبوا مبالغ مالية.”
وأشارت إلى أن منسقي المنظومة شددوا عليهم بعدم دفع أي رسوم، مؤكدة أن “كل الإجراءات والخدمات مجانية بالكامل، من لحظة التسجيل حتى الوصول.”
وأضافت: “هذا عمل كبير، وحقيقة حسّينا أن السودان لسه بخير… في ناس لسه بتقدم وتساعد السودانيين.” وختمت حديثها: “لازم نرجع كلنا عشان نعمر بلدنا، وعمار البلد ما بيبدأ إلا برجوع ناسها، بتعمير بيوتنا، وعودة الحياة والخدمات.”

+ العودة… حدث وطني وإنساني

وهكذا، لم تكن العودة مجرد لحظة انتقال من مدينة إلى أخرى، بل كانت حدثًا وطنيًا وإنسانيًا، حمل في طياته نبض الوطن، ودفء الانتماء، ووعود المستقبل.
عاد السودانيون من القاهرة والفرحة تسبقهم، ليبدأوا من جديد قصة وفاءٍ للوطن، في انتظار غدٍ أكثر إشراقًا وأملاً.