آمال التلب تكتب: عيون النرجسي .. تداخلات الحزن والخذلان

عيون النرجسي .. تداخلات الحزن والخذلان

آمال التلب

هرعت سارة إلى نافذة حجرتها، تبحث بعينيها القلقتين عن مؤذن الرحيل، ولما لم تجد شيئًا، مسحت دمعة طفرت من عينها بصمت. أرهفت السمع لأصوات متداخلة، فالبدايات تختلط بالنهايات، وأدركت حينها أن الذين يرحلون، لا يفعلون ذلك من أول وجع، بل من تكرار الخذلان.

أدارت سارة نظراتها في صمتٍ ثقيل، المكان يعج بالناس، لدرجة يصعب معها تصديق أن بيتًا واحدًا استطاع الصمود أمام موجات الانفصال التي اكتظت بها محاكم الأسرة، وجدرانها الصامتة التي تحفظ قصصًا لا تُروى.
كان قلبها يحدثها أن عليها التوقف عن التمسك بهذا الهراء. لطالما صنعت من واقعها المبعثر ما يشبه السلام، لكنها اليوم تجبر نفسها على الانسحاب بهدوء، تسقط عن كتفيها أثقال سنوات مضت. ورغم كل شيء، كان يجب عليها أن تتخلى عن طريقتها القديمة في التفكير، تلك التي تجعلها تشعر أن كل من حولها قد فقد إنسانيته.
عند هذه النقطة، أحسّت بأن ضجيج أفكارها قد خفّ قليلاً، وأن الغيم الذي طالما حجب عنها الرؤية، بدأ يتلاشى، ذاك الغيم الذي لم تتحدث عنه لأحد سوى نفسها، خوفًا من الفقد.
ابتسمت وهي تتذكر إطلالة زوجها في يوم زفافهما، بوسامته وأناقة حديثه، حُفرت تلك اللحظة في ذاكرتها كأنها لم تعرف دفئًا قبلها. عاشت موت الأزمنة، والآن تعيش موت الأماكن. لقد جاءت إلى هذه البلاد مع موجات الهجرة التي اجتاحت أوطانًا مزقتها الحروب. امتلأت الشوارع والأحياء بالعائلات القادمة من كل حدب وصوب، حتى باتت سحنات الغرباء مشهدًا مألوفًا.
واجه الوافدون صعوبات جمّة في كسب لقمة العيش، فهم القادمون إلى مجتمع متطور اقتصاديًا، لكن غريب عنهم لغويًا وثقافيًا. لم تُعترف بشهاداتهم، وبات عليهم اجتياز امتحانات معقدة لمعادلتها، بينما تكاليف الحياة ترتفع حتى لامست عنان السماء، فصار معظمهم يعمل في مهن بسيطة لا تليق بمؤهلاتهم.
في المدارس، اصطدم أبناؤهم بلغة التدريس المختلفة، وتعبوا من نظرات الزملاء التي لا تخفي استغرابها من اختلاف لون بشرتهم. ومع الوقت، أصبحت خطواتهم نحو المدرسة مثقلة، وأصبح الانسحاب من التعليم واقعًا حتميًا لبعضهم. لجأت بعض الأسر إلى المدارس الخاصة، لكن التكاليف كانت باهظة، فاضطر كثيرون إلى دفع أبنائهم إلى سوق العمل، أو الهجرة مجددًا نحو دول تمنح دعمًا وتقديرًا أكبر.
“أنزلني هنا من فضلك” — لم تقلها بصوت مسموع، لكنها كانت صرخة قلبها، همسًا لنفسها المتعبة. لقد احتاجت سارة من يمنحها الحق في الضعف، من يشاركها إحباطاتها. جاءت إلى هنا وحدها، بعيدة عن عائلتها، وقضت عامين في عزلة، قبل أن تدخل قفص الزواج.
لكنها دخلت بيت الزوجية وهي تدرك أنها تفتح أبوابها لرياح تعرف قسوتها مسبقًا. أو لعلها كانت “عيون النرجسي” هي التي أثّرت فيها. مرّت السنوات، واستمرت الحياة بينهما تتحسن على السطح، رغم شحّ التواصل اللفظي. أجادت سارة قراءة الإشارات، وتكريس وقتها كله لزوجها. فهناك بيت بلا أثاث، وفواتير متراكمة، وديون تنتظر السداد.
ضحكت سارة كثيرًا وهي تواجه التحديات التي رآها زوجها جبالًا، بينما رأت هي فيها تفاصيل صغيرة في بلد يبرق جمالًا ونظافة، ويحتل مكانة مرموقة في خارطة السياحة العالمية. اجتهدت لتثبت نفسها، وإن كانت وحيدة في أرض لا تعرف فيها سوى نفسها، وتعاني من صعوبة الاندماج.
مارست سارة تسامحًا بلا حدود، فهي ابنة وطنٍ يُساء فيه إلى أهله دون أن يُحاسَب أحد. وطنٌ يُولد من رحم العذاب، وقلوبه تنكسر كل يوم، ثم تنهض وكأن شيئًا لم يكن. وطن لم تُغلق فيه أبواب المودة يومًا، حتى في وجه من يحمل الأشواك.
ربما أدرك من حولها ذلك قبل أن تدركه هي، لذلك أصبحت الوافدات “اللاعب الذي لا يتوقف عن هز الشباك” – إذ تصاعدت نسب الزواج منهن رغم الجمال اللافت لبنات البلد. غير أن الأخيرة، أدركت حقوقها مبكرًا، وطالبت بها، فآثر الرجل الأجنبية التي لا تطالب، بل تحتمل، وتصبر، وربما تُحب دون شرط.