رئيس الوزراء يعين الشفاء عبد الله وزيراً للتجارة والتعاون والتموين

ولألون كلمة
حسين خوجلي
رئيس الوزراء يعين الشفاء عبد الله وزيراً للتجارة والتعاون والتموين
عندما أسست (ألوان) عام 1984م، كان يجتمع في مكتبي كبار الصحفيين من الرواد والمؤسسين: الأستاذ الريفي، والأستاذ محمود أبو العزائم، والأستاذ محمود إدريس، والأستاذ رحمي سليمان، ومحمد صالح يعقوب، وحسن مختار، وعبد الله عبيد، رحمهم الله جميعاً، فقد مضوا عن هذه الفانية سراعاً بعد أن أترعوها وسودوا صفحاتها البيض بالأفكار والأسمار والذكريات.
وقد كانوا يعتدّون أمامي بصحفهم الاتحادية والاستقلالية، ومعاركهم، وصداقاتهم مع الساسة الكبار والآباء المؤسسين، ولهم نوادر وحكايات وأسرار تصلح لأن تكون مئات الكتب والموسوعات، ولكن لعن الله آفة الشفاهية التي ضربت معارفنا واعترافاتنا، ورحم الله العميد الأديب عمر الحاج موسى، الذي كان يعلق على تجارب الكبار المنسية والمخبوءة بقوله: “إن علم السودانيين إما في الصدور وإما في القبور”.
ولحداثة تجربتي، وأنا أسمع وأرى فخرهم وافتخارهم بماضيهم التليد في الصحافة والكتابات ومصاحبة الكبار، أقول لهم مفتخراً بما عندي: (إني يا أساتذتي الأجلاء لا أجد ما أُفاخر به وأنافس وأعارض تجاربكم إلا الحقيقة الوحيدة التي أمتاز بها، أنني أصغر رئيس تحرير في تاريخ الصحافة السودانية، فقد نلت هذا الشرف وأنا دون الثلاثين). وكان الريفي، عليه الرحمة، الأديب والشاعر، يقاطعني ممازحاً: “إن أهلك الصوفية يقولون: إن الطريق لمن صدق، وليس لمن سبق”.
منذ تلك الفترة في بداية الثمانينيات، والتي أنجبت سنواتها صحيفة ألوان، وصحيفة الحياة والناس، وصحيفة سلامات، وقناة أم درمان الفضائية، وإذاعة المساء، صحبت مختلف الحقب بإدارات شتى، ووزارات، ومؤسسات، ومرافق سياسية، واقتصادية، واجتماعية، فيها الرسمي، وفيها الشعبي، وفيها (ما بين بين).
وإني لأعترف بأن القادة الرجال في كل هذه المؤسسات، كان فيهم الكثير من الزلل، والفساد، والتجاوزات، والرشاوي، وتقديم حظ النفس على حق المواطنين في نيل حقوقهم في تلك الدواوين الحكومية الكئيبة. طبعاً، هذه الشهادة ليست على إطلاقها، لكنها في الأعم والأغلب صحيحة.
إلا أنني، وللتاريخ، أقدم هذه الشهادة التي يصعب الجهر بها في هذا المعترك الذكوري الضارب، هي شهادة احتفاء وتمجيد وحفاوة بالمرأة السودانية. ففي كل المؤسسات والوزارات والشرطة والقضاء ودواوين الدولة، وجدت أن المرأة السودانية، في إدارة هذه المؤسسات، هي الأجدر، والأنقى، والأشرف، وكانت دائماً ملتزمة بالقوانين والتشريعات دون أي تزيد أو اجتهادات أو استثناءات يتسلل من خلالها السماسرة وقطاع الطرق المكتبية لنيل الحظوة الحرام في المال العام، وأراضي الدولة، ومصارفها، واستثناءاتها، وامتيازاتها دون وجه حق، إلا من باطل الرشاوى والشراكات المبطنة مع الوزراء والأمراء وقادة المصارف وصناع القرار في ليالي الخرطوم الحمراء الدهينة بالتجاوزات، تلك التي أحالت المزارع من أرض للحصاد إلى أرض من الفساد.
وبمثل هذا، حاصرتنا النكبة شيئاً فشيئاً حتى قضت على الأخضر واليابس، وتجدني في غاية الحزن أن المرأة السودانية ذات الكفاءة والمعرفة والعلم والخبرات والخلق الوعر لم تجد حظها في التشكيل الوزاري الأخير، وإن فاتها وفاتني هذا الشرف، فإني أذكر الأخ رئيس الوزراء البروفسير كامل الطيب إدريس أن يستعين بهذه الكفاءات النسوية في مجال ضبط المال العام، والتصديقات، والرخص، والعطاءات، فهن الأكثر جدارة وثقة وطهراً من كثير من الرجال، أو بالأحرى الذكور، الذين يدّعون القوامة، وهم أقل قامة من القيام بأي دور وطني.
وما الحالة الذكورية التي صنعت النكسة، إلا فرع من سقوط هؤلاء في أتون الانكفاء، والتعثر، واللّا جدارة. وقد صدق أحمد بن الحسين حين قال في حق المرأة عالمياً، وعربياً، وأفريقياً، وسودانياً، أبياته الشهيرات:
ولو كانَ النساءُ كمن فقدنا
لَفُضِّلَتِ النساءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عَيبٌ
ولا التذكيرُ فَخرٌ للهِلالِ
وقد كان الراحل المهندس العارف، والشغوف بمحبة رسول الله ﷺ وسيرته، الصافي جعفر، دائماً ما يردد أن الفاروق، الخليفة الثاني رضي الله عنه، قد عيّن الصحابية الشفاء بنت عبد الله القرشية العدوية ناظراً ومراقباً للسوق في المدينة المنورة، ذلك السوق العامر. وقد كانت وظيفتها، في التسمية المعاصرة، وزيرة للتجارة والتعاون والتموين، وفي بعض الروايات، أنه كان يقدم رأيها على الرجال لما عُرفت به من علم وتجربة وصلاح. وكان تعييناً قائماً على الكفاءة، لا ترميزاً في المشاركة، ولا مجاملة، ولا زراً للمرماد على العيون، وليس في حساب الترضيات السياسية الكذوب، فقد كانت هذه الصحابية الجليلة أهلًا لذلك، بل أكبر.
ويزيد على ذلك الصافي، عليه الرحمة، بقوله: وكان عمر بن الخطاب يعرف تماماً أن المرأة أعرف وأحذق من الرجل في معرفة الجزئيات والأشياء الصغيرة التي تفضي إلى الأزمات الكبيرة، وما هذه الجزئيات إلا مدخلاً أساسياً مركزياً لسبل كسب العيش، والتنمية، والحياة. وكان عليه الرحمة يستدل بالنظرات الثاقبة لأم معبد الخزاعية، التي وصفت الرسول ﷺ بوصف ما زال هو العمدة في التوصيف للشعراء والكتاب وأهل الأماديح والأناشيد العرفانية، مع أن المدة التي رأت فيها المصطفى ﷺ لم تتجاوز ساعة من الزمان، فرسخت تلك الساعة كل هذه المعاني فيها، وأطلقتها، فجملت بها الزمان والمكان منذ ذلك التاريخ إلى يوم الناس هذا. ولم يرد في كتب الثقات وصفٌ للنبي ﷺ أصدق، وأوضح، وأجلّ من وصف أم معبد.
ويقول الشاهد: إنها أم معبد الخزاعية عاتكة بنت خويلد بن خالد، كانت امرأةً طاعنة وكبيرةً، تُسقي وتطعم من يمرّ بها، وعندما خرج رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مهاجراً من مكة إلى المدينة مع أبي بكر، ومولاه عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأريقط، مرّوا على خيمتها، وأرادوا أن يشتروا منها لحماً وتمراً، فلم يجدوا عندها شيئاً، فرأى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- شاةً في الخيمة، فسألها عنها، فأخبرته أنَّها شاة مجهدة (ضامرة عجفاء) لا تستطيع الخروج للرعي مع الغنم، فسمّى على الشاة ودعا، ومسح بيده على ضرعها فدرّت الحليب، فطلب وعاءً فحلبها، وسقى أم معبد حتى رويت، ثمَّ سقى أصحابه حتى ارتووا، ثمَّ شرب هو -عليه الصلاة والسلام-، ثمَّ حلبها مرة أخرى حتى ملأ الوعاء، وبايعها وغادر هو وأصحابه، وعندما عاد زوجها ومعه الغنيمات العجاف، ورأى اللبن تعجّب وسألها عن ذلك، فأخبرته بما كان، فطلب منها أن تصف له الرجل الذي مرّ بهم، وعندما وصفته علِم بأنَّه النبي الذي خرج من مكة.
وصفته أم معبد قائلة: “ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثُجْلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وَطَف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فضل، لا نزر، ولا هذر، كأن منطقه خرزات نُظمن يتحدرن، رِبعة، لا تقحمه عين من قصر، ولا تشنؤه من طول، غُصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، وله رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفَنَّد.
وأذكر أنه في إحدى جلسات وملتقيات وندوات الأستاذ والشاعر واللغوي الكبير فراج الطيب، عليه رحمة الله، بمنزله بضاحية أبروف ـ ردّ الله غربتها ـ أنه قرأ على مسامعنا ذلك النص لوصف أم معبد للمصطفى ﷺ، وشرحه بإفاضة وفصاحة، فهتف الشاعر الكبير محمد بشير عتيق، الذي كان حضوراً في الندوة، بصوت فيه الكثير من الدهشة والإعجاب والبراءة، معلِّقاً: “الله أكبر، الله أكبر… ليس هنالك أخطر وأفصح من الأديب الذي يصف المرأة، إلا المرأة الأديبة حين تصف الرجل.”