19 يوليو 1971م .. قصة انقلاب لم يكتمل

19 يوليو 1971م .. قصة انقلاب لم يكتمل (1)
بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظ
بتاريخ 16 نوفمبر 1970 صدر قرار من رئيس الجمهورية جعفر نميري بعزل ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة مايو وهم المقدم بابكر النور سوار الذهب والرائد فاروق حمد الله والرائد هاشم العطا بسبب رفض الثلاثة لجملة من قرارات وموجهات مجلس مايو وقرارات مجلس الوزراء كذلك، ومن ضمنها اعتراض بابكر النور على الميزانية الضخمة التي رفعها الرائد مامون عوض أبو زيد لإنشاء جهاز الأمن القومي زائدًا اعتراض الرائد فاروق حمد الله على وجود شخصيات بعينها داخل مؤسسات الدولة مرورًا بتذمر الرائد هاشم العطا من حالة الخمول لفصل وإنهاء خدمة عدد من الضباط بالقوات المسلحة وعدم تعاون كبار موظفي وزارة الثروة الحيوانية التي عمل وزيرًا لها، وأخيرًا الجهر برأيهم الواضح في تغلغل المخابرات المصرية داخل أجهزة الدولة. وحين وصل الصراع بين الثلاثة المغضوب عليهم (فاروق، بابكر وهاشم) للعلن وأصبح حديث مجالس السمر في السودان صدر قرار بعزلهم، فأصبحوا خارج نطاق دائرة القرار.
+ حملة الشيوعي
تزامنت هذه الأحداث والتطورات مع حملة الحزب الشيوعي ضد الحكومة وعدم تنفيذها لجملة من مشروعات التوجه الشيوعي وأهمها ملف العلاقات الخارجية الذي سيطرت عليه مصر كليًا رغم تمدد علاقة أهل مايو مع الإتحاد السوفيتي. زاد على ذلك انقسام الحزب الشيوعي الذي كان بمثابة قوة دفع واضحة للجناح الانقسامي لعرض رؤيته لصناع مايو بضرورة إبعاد العناصر غير المتعاونة معهم وبالطبع كان المقصود جماعة عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب. إزاء هذه الظروف والملابسات الواضحة بالشرخ والانقسام برزت فكرة الانقلاب العسكري فكان الحزب نفسه منقسمًا حيالها.
+ ضباط الحرس الجمهوري
بعد اعتقال السكرتير العام للحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب في بداية العام 1971 بسلاح الذخيرة جنوب الخرطوم وضح أن شهر العسل بين الحزب الشيوعي وأهل مايو قد أفل إلى الأبد، مما جعل الخطى تتسارع داخل مجموعة الضباط الشيوعيين لتنفيذ انقلاب عسكري ضد مايو .
أخطأت أجهزة الأمن حينها بترك الضابط عثمان حاج حسين أبو شيبة داخل أخطر وأهم وحدة عسكرية وهي الحرس الجمهوري الذي أشرف هو شخصيًا على اختيار ضباطه وجنوده وبل تسليحهم، فكان التخطيط للإنقلاب يتم من داخل مبنى القصر الجمهوري الذي تقبع به وحدة الحرس الجمهوري.
زادت وتيرة الاستعداد للانقلاب بعد هروب واختفاء عبد الخالق محجوب من معتقل الذخيرة. وتقول مصادر معاصرة للأحداث أن توتر أجهزة الأمن بسبب هروب واختفاء عبد الخالق محجوب وعدد من أعضاء اللجنة المركزية للحزب هو ما صرف أجهزة الأمن عن المخطط الذي كان يجري داخل القصر الجمهوري بتخطيط قائد الحرس (أبو شيبة) مع انصرافها كليًا عن التفكير في انقلاب يقوده الحزب لغياب عقوله المدبرة داخل الجيش لإبعادهم خارجه ومؤسسات الدولة (بابكر، فاروق، هاشم) رغمًا عن عدم انتماء فاروق للحزب إلا أنه ووفق مصادر قريبة الصلة من شخصيته رجحت علمه بما يدور داخل تنظيم الحزب الشيوعي داخل الجيش.
+ تنفيذ ومباغتة
تركزت خطة تنفيذ الانقلاب من داخل القصر الجمهوري على مباغتة أعضاء مجلس مايو والرئيس نميري في توقيت غير مطروق لتنفيذ انقلاب عسكري وهو الثانية ظهرًا بقوة قوامها ضباط وجنود الحرس الجمهوري الذين ثبت أنهم ومنذ بداية العام 1971 كانوا في ترتيبات مسبقة لتنفيذه مع غياب تام لأجهزة الرصد والمتابعة الأمنية.
داخل وثائق الانقلاب ومجريات الاحداث لم يكن وحتى الآن هناك إجابة واضحة لتوقيت الانقلاب ووجود جميع أعضاء مجلس قيادة مايو مع الرئيس نميري بمنزله وهي من ضمن ما بحث عنه الباحثين كثيرًا ولم يتوصلوا للإجابة عنه. ففي لحظة واحدة تم اعتقال أعضاء مجلس مايو باستثناء خالد حسن عباس الذي كان متواجدًا بمصر في اجتماعات بمرسي مطروح مع القيادة المصرية. كذلك تم اعتقال عدد 24 ضابطًا من المعلوم انتماءهم لمايو مع اعتقال البعض منهم لوجودهم داخل وحداتهم العسكرية وذلك بقصر الضيافة بشارع الجامعة.
+ أحداث مثيرة
عند الساعة الثانية واثنين وأربعون دقيقة بتوقيت السودان وعند خروج الموظفين والعمال لمنازلهم قطعت الإذاعة السودانية برامجها وأعلنت أن هناك بيانًا هامًا للرائد هاشم العطا سيذيعه للشعب السوداني. ومن هنا بدأت دلائل شيوعية الانقلاب الحمراء وكذلك دلائل ضعف التخطيط وسوء دراسة الجدوى العسكرية والسياسية لمنفذي الانقلاب بخمسة مؤشرات رئيسية ساهمت في فشله.
أولًا: خروج جماهير الحزب الشيوعي للشوارع في مدن السودان المختلفة تهتف لهاشم العطا والحزب الشيوعي كذلك، مما جعل البقية الباقية من ضباط وجنود القوات المسلحة من غير المنتمين للحزب الشيوعي يتحركون للتحرك المضاد الذي استغرق التجهيز له يوم واحد حتى اكتمل بصورته المعلومة.
ثانيًا: تأخر هاشم العطا وحتى الساعة السادسة واثنين وثلاثون دقيقة حتى يظهر ببيانه الواضح التوجه والمرامي والجهة التي تقف وراءه.
ثالثًا: انتظار الانقلابيين لوصول رئيس مجلس الوزراء المعلن بابكر النور سوار الذهب من لندن والرائد فاروق حمد الله لقيادة الحكومة. وشاع الاحباط واليأس وسط الانقلابيين بعد اعلان أجهزة الاعلام العالمية عن اعتقال السلطات الليبية لبابكر النور وفاروق حمد الله بعد إجبار الطائرة التابعة للخطوط البريطانية التي يستقلانها للهبوط في طرابلس ومن ثم ارجاعهما للسودان معتقلين .
رابعًا: تحييد ضباط وجنود الوحدات العسكرية وسحب أسلحتهم وتركهم دون مشاركة في الانقلاب وبل اعتقال البعض منهم بتهمة موالاة مايو مما جعلهم حين دعى داعي التحرك المضاد للانقلاب يساهمون بفعالية في إخماده والتنكيل بمنفذيه.
خامسًا: تحرك دول المعسكر المضاد لوجود الشيوعية في السودان وهي دول المواجهة السياسية والفكرية للشيوعية والاتحاد السوفيتي وهي بريطانيا وأمريكا ومصر الساداتية وليبيا والسعودية وجميع هذه الدول كانت تحركاتها لإجهاض الانقلاب في توازي وحراك متصل مما تكشف فيما بعد .
+ في انتظار الانقلابيين
ظل الانقلابيون ينتظرون ليومين وصول قادة الانقلاب من لندن التي عقدوا فيها مؤتمرًا صحافيًا حاشدًا تكشف فيه علمهما المسبق بالتخطيط والتنفيذ والمشاركة فيه. وفي اليوم الثاني سيرت المنظمات الشيوعية بالعاصمة ومدن السودان الكبرى تظاهرات حاشدة بشعارات الحزب المعروفة (سايرين .. سايرين في طريق لينين، لا للرجعية .. أممية أممية).
+ ظهور عبد الخالق محجوب
كثر الحديث عن رفض اللجنة المركزية للحزب الشيوعي للانقلاب وهو ما دحضته الأحداث وقرائن الأحوال في اليوم الثاني للانقلاب. ففي ميدان المالية بالخرطوم ظهر السكرتير العام للحزب عبد الخالق محجوب وخاطب الجماهير بالقول إن ثورة الكادحين لن تتوقف في إشارة واضحة لتأييده الانقلاب. وهنا كان التحرك الذي جعل الضباط والجنود من غير المشاركين في الانقلاب ينظمون اأنفسهم بالقدر الذي جعلهم في نفس اليوم أي يوم 20 يوليو من الاتصال بالوحدات العسكرية ليأتي يوم 21 يوليو حاملًا معه بوادر انهيار الانقلاب الذي كان مترنحًا منذ دقائقه الأولى.
+ اليوم الثالث للانقلاب
منذ الساعة العاشرة صباحًا بدأت حالة الارتباك وسط الانقلابيين بعد الزيارة الثانية لقائد الانقلاب هاشم العطا لنميري في معتقله بعد زيارته الأولى له في تمام السابعة مساء يوم الانقلاب وحينها كان التوتر وعدم النوم لمجموعة الضباط والجنود الذين قادوا تنفيذه باديًا عليهم مما أعطى ضوءً أخضرًا للتحرك المضاد للنجاح وبل دحر الانقلاب.
تقول الوثائق المتوفرة أن السبب الرئيسي لإنهيار الانقلابيين كان انتشار خبر اعتقال السلطات الليبية لعضوي التحرك بابكر وفاروق، غير أن السبب الرئيسي كان قلة القوات المساندة للانقلاب وحوجتها للغيار والراحة وتناول الطعام والعمل بعقل مفتوح مع عدم ثقتهم في بقية القوات الأخرى من تشكيلات القوات المسلحة وهو ما جعل بقية القوات غير المساندة تستغل هذه النقطة الهامة لديهم وتقوم بتحركها المباغت عليهم.
+ اللحظات الأخيرة
عند الساعة الثانية عشر من منتصف نهار يوم 21 يوليو بدأت قوات من سلاح المظلات في التحرك نحو الخرطوم مع حصول قوات المدرعات على إبر الدبابات التي كانت قد تم سحبها قبل يوم من الانقلاب ليبدأ فصل جديد من فصول الانقلاب كان عنوانه العنف والموت وبل التصفية بالسلاح الناري للضباط المعتقلين بقصر الضيافة.