الأمل قبل الألم والحداة قبل العناء

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

الأمل قبل الألم والحداة قبل العناء

(1)

الشمس في السودان لا تغلب والدعاش في خريفه لا يحفظ. والحر في صيفه لا يكافح مثل الاستبداد واصرار الحكومات على أن الخطأ من صنع الجماهير. الناس في حاجة لحزب مثل المساء والقمر وماء النيل والنفير والمسادير. والحضور للناس والأشياء والعدالة. الحضور الذي يجعل اللصوص والمتمردين يلقون أسلحتهم ويهربون. سادتي أن قادة التمرد في كل مكان مثل الجريمة والجريمة لا تفيد.

(2)

إن حزباً لا تمارس عضويته شرف محو الأمية. وفلاحة الأرض ورعاية اليتامى والمساكين والفقراء ويدرب الجيل الجديد على المهنة والموهبة والتحدي حزب محكوم عليه بالفناء. كما إن حزباً لا يجعل من المسجد نقطة انطلاق لتكوين بنيات المجتمع المدني، حزب محكوم عليه بالفشل. إن حزباً لا يبشّر بالسنة العملية ولا يحيل السنة القولية إلى سلوك متحضر لصالح الإنسان، حزب محكوم عليه بالأمراض المزمنة. لقد انتهت عصور أحزاب الخطابة المرصّعة بماء الذهب والأقوال المدهونة بالعنتريات.
هذه هي هديتنا إلى البرهان وكامل إن فكرا في تكوين حزبٍ وإعلان تجمع أو جبهة.

(3)

كيف إذا عادت العواصم إلى الجماهير، وعاد النفط إلى الأحرار وعادت الأسلحة للجيوش القصية، وعادت العروش إلى ضفاف الحريات والشورى وأهل الحل والعقد والعلم والايمان؟.
كيف إذا عادت الملايين إلى محمد واسلام الشورى والحريات؟. يومها لن يكون الحلم بتحرير فلسطين ولا كسر شوكة امريكا التي أثبتت كل التجارب والمنعطفات الماثلة أنها لا تملك مفتاحاً للحل، بل أنها لا تملك مشروعاً أخلاقياً في السياسة يحترمه شعبها، فكيف بالآخرين غير هذه الشعارات الكواذب والمعايير والأحكام المزدوجة؟. إن هذا هو زمان الحلم الأكبر بعد هذه الزلزلة التي تعقبها بشارة المشيئة بأن ميراث الأرض أبداً للمتقين. يومها سيكون الحلم اليقيني عودة الأمة الشاهدة لا النجم الساطع ولا الإمام المنتظر ولا مبعوث العناية الإلهية والسيوبر مان، نعم الأمة الشاهدة التي تملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً. وهو وعد الانتظار له والانتظار به يكسب الأنفس الغاضبة والحائرة بعداً من الرضى والطمأنينة والإيمان المحض.
هل عرفتم لماذا ضربت إسرائيل بالأمس القصر الرئاسي بدمشق، ولماذا صمتت أمريكا؟ ولماذا إحتار العرب والمسلمون؟.

(4)

أتصل بي أحد الأصدقاء من الذين عرفوا بسعة الاطلاع والمداومة على القراءة الجادة. وقال عبر الهاتف حزيناً هل تصدق يا حسين أنني لم أكمل كتاباً منذ ثلاثة أشهر، وكنت قبلها أقرأ في كل أسبوع كتاباً من الوزن الثقيل. لقد مات كل ذلك في هذا الزمن الثقيل الذي أصبح كله محصوراً في قفة الملاح التي قتلت كل الليالي الملاح. ظللت أستمع في حزن للرجل، حزن لم يكسره إلا طلبه فقد قال لي ساخراً سخرية دامعة. (ليس لي أي طلب يا حسين إلا أن تبحث لي عن ظرفاء الجامعة الذين تبددوا ليعيدوا تسجيلي في جمعية الجهل النشط). وضحكنا حتى الثمالة، أو بالأحرى بكينا فهذه أيام تشابهت فيها مفردة التضاد، وتضادت فيها مفردات التلاقي.
ويا له من سعيد فإنه لم يقرأ كتاباً منذ ثلاثة أشهر، والشعب السوداني قاطبة لم يقرأ كتاباً منذ 3 سنوات عمر النكبة وواقعة الغفلة.

(5)

البروفيسور عبد الله الطيب تحدث بعلم وإسهاب عن العربية والعرب والعروبة. ولكنه للأسف ذهب دون أن يسأله أحد كيف السبيل؟ وكيف الخروج من نفق الأزمة؟. لم نقل لا تحبوا كبارنا، ولكن أليس من سبيل للحب على الطريقة النقدية!. مضى الرجل وكان يملك على الأقل بعض الإجابة. وكان يمكن إن لم يتمهل لها أن يلقيها من (نافذة القطار).
ليت السؤال هذا وثق للرجل ووثقت الإجابة، لأن العرب والعروبة والعربية مازال على شط الإنتظار المستحيل.

(6)

حضر كورة العصر ودخل السينما الدور الأول والثاني (وكتل) حفلة وقعدة ثم ذهب من بيت اللعبة للجامعة (وشخر) في المحاضرة الصباحية. هرشه المحاضر (الصعب) وأوقفه طيلة المحاضرة شاخصاً. وعلى كراع واحدة. وبمجرد خروج المحاضر القاسي القسمات دخل صاحبنا في (نومة عميقة)، فأيقظه المحاضر اللطيف بتهذيب (كنت وين مساهر يا حبيب القسا)؟. فنهض في (خلعة) وقال: (كنت مساهر في المحاضرة الأولى يا دكتور). ورغم تخرجه إلا أن الجامعة مازالت تضحك على الإجابة المسكتة.

(7)

حين كان الدرس متاحاً أباه بالتمرد وألاعيب الصغار. وحين كان الحقل متاحاً أباه بالكسل والتواكل. وحين ورث أباه. بددها في الحرام. وحين حاصرته الحياة لم يجد علماً يحميه ولا مهنة ولا مال. وحين حاول أن يتعلم إحداها ما بعد الثلاثين فشل وإنهار، فإختار طريق الجريمة. ولكن الجريمة كانت دائماً لا تفيد. وبعد خروجه من السجن اختار «الشحدة» أمام المؤسسات والمصارف وفي الطرقات والحدائق العامة. وفي كل يوم كان يختار قصة «الوالدة بالمستشفى». الجماعة ديل فصلونى للصالح العام. ماشي الأبيض يا ابن العم. وقد ضاع النصيب في المواصلات!. مريض يا مسلمين. نعم مريض يا مسلمين. إن كل شاب أو رجل مكتمل العقل واليدين يسأل الناس إلحافاً، إلا من عذر الله بسبب واضح، فإن وراءه قصة فشل قديم وخيبة قديمة. وهذا المثال هو الوحيد الذي لا تحق فيه عبارة جار الرجل الصالح: (أضاعوني وأي فتى أضاعوا يوم كريهة وسداد ثغر).

(8)

أتاه المال حين امتنعت المعدة عن الهضم. وغدرت السنون بالمتعة. وقضت الأيام على النظر وأصبح السمع مثل شرب الماء (مسارقة). قال لي إنه محتار من ثروة الورثة التي وقعت عليه من السماء والحياة أمامه وهو ممنوع، فقلت له عليك بالإنفاق، والإنفاق بغير منٍّ ولا أذى، فإنه يفضي إلى الجنة، وهنالك كما تعلم ولا تعلم لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر.

(9)

جيلنا هذا لا يفكر في الذي فعله بالوطن ولا بالذي فعله الوطن به، لكنه يفكر في إخفاقاته. والجيل القادم الذي نخشى أن يقتلع الأعداء الوطن (من فرق أيديهو) ولا يملك غير قولة الغافل بالغفلة التي بدأناها نحن: (تبكي على وطن بكاء النساء. وطن لم تصنه صيانة الرجال).
أنها الروشتة الأخيرة لمواكب العودة التي لن تجد إلا بليلة المباشر، ولكنها ستجد أرضاً ونيلاً وأهل يرفعونهم على أكف الفرح والراحة، ويالها من ثروة، ويالها من سعادة.