
عبد اللطيف السيدح يكتب: مأمون بجوارك يا أمه خديجة
مأمون بجوارك يا أمه خديجة
عبد اللطيف السيدح
نبيلٌ هذا الإلهام، عظيم هذا الموقف الذي تتقاصر دونه كلماتنا، في حضرة مهابة الرحيل، فدموع الوداع انسكبت على مرقد الطُهر، حيث أرواح الصالحين تعانق السماء في صمت مهيب، تبكيك يا مأمون، يا ابن الذرية المباركة، وتقرأ على مرقدك السلام.
غادرنا مأمون يوسف الفكي الحسين السيدح، ابن المجد، وسليل الورع، ونسيج المحبة والوقار، فاضت روحه الطيبة، ورحلت إلى خالقها برضا وتسليم، فاهتزت له القلوب، وتوسدت له الأرض المباركة صدرها، وكأنها كانت تنتظره.
لقد صدرت أوراق دفنه في أول الأمر إلى مقبرة شهداء الحرم بالشرائع، ولكن الله أراد غير ذلك وبركة الراحل لازمته حتى مرقده، فبينما نحن داخل مغسلة الموتى، وفقيدنا مسجى ومكفنًا ومجهزًا ومعطرًا بالمسك والكافور دخل علينا في آخر الدقائق أبوماجد وهو الرجل الذي يعرفه، بتقاسيم وجهه الذي يشع نورًا ووقارًا، يحمل إذنًا رسميًّا غير متوقع، يحمل توقيعًا لا يُرد ولا يُعارض: إذن بدفن الفقيد في مقبرة المعلاة التي تحزم الحرم المكي من الجهة الشرقية بالحُجون، وفي التلة التي تعلو حوض أمّنا خديجة بنت خُويلد، الطاهرة الطيبة، في عين المكان الذي نزلت فيه الملائكة بكفنها من الجنة، ولازالت تَحرس مراقد عترة البيت النبوي الشريف وانضم إليهم المأمون الذي جاورهم إلى يوم الدين، فما أعظم الاصطفاء، وما أكرم الختام، حين يُدعى الإنسان من بين الآلاف ليكون جليس بيت النبوة، وبجوار الصالحات والصالحين، في أرض ما مستها إلا الأقدام المباركة، ولا تنفست فيها الأرواح إلا برائحة الجنة.
إن البشارة جاءتك بصمت، واصطفتك الملائكة لترافق روحك إلى مرقد لا يُنال إلا بفضل رباني لا يُقاس.
نم يا ابن أخي قرير العين في الحُجون، فقد زُففت إلى كرامة لا يعلو فوقها شرف، وسِرت إلى مثوى ما بلغته الخطى إلا بإذن من الله، حيث تتفتح أبواب الرحمة على مصراعيها، وتتناوب الملائكة على الحراسة والدعاء.
سلامٌ عليك يا مأمون، في الأولين والآخرين… وسلامٌ على مرقدك، ما تعاقبت الأرواح، وما رُفع دعاء، وما هبطت رحمات.
وفي حضرة الحزن، تتجلّى المروءة، ووسط الأسى، تتلألأ معادن الوفاء، وهذه سانحة نتقدّم عبرها بأصدق عبارات الشكر وأعمق آيات العرفان لكل من واسانا ووقف إلى جانبنا في رحيل فقيدنا الذي فجعنا برحيله، وأوجع قلوبنا فراقه، فلقد كنتم، أهلنا وأحبتنا، البلسم الذي خفّف وقع المصيبة، والسند الذي أعاننا على احتمال ثقل الفقد. شكراً لمن حضر التشييع، ومن رفع الأكفّ بالدعاء، ومن أرسل كلمات المواساة، ومن شاركنا الحزن بصمت النبلاء، مواقفكم العظيمة ليست بغريبة على أبناء السودان، ذلك الشعب الذي إذا اشتدّ البلاء، اشتدّ تماسكه، وإذا نزل المصاب، تكاثفت سواعده، وتساندت قلوبه، فلكم منّا الدعاء الصادق، أن لا يريكم الله مكروهاً في من تحبون، وأن يجعل البركة في أعماركم وأهليكم، كما نسأل الله أن يتغمّد فقيدنا بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، ويجعل البركة في ذريته.
إنا لله وإنا إليه راجعون.