سودان البليلة الأنيقة

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
سودان البليلة الأنيقة
أحد أصدقائنا في الجامعة كان محبوبًا للجميع، لأنه باختصار كان صندوقًا من الحكايات اللطيفة التي يتلقاها ويلتقطها بطبيعته الموسومة بالأدب، من كتب الأدب العربي الشهيرة، ومن المترجمات، وحتى من الحكايات السودانية العوابر المتداولة.
وكانت له عبارة شهيرة حين نسأله عن بعض الحكايات التي قالها في أيام سالفات، فيبذل جهدًا كبيرًا في التذكّر، ويقول: “لقد نسيتها، فقد تكسّرت النصال على النصال.”
وهذه الحكاية التي مرّت بخاطري، ليست من مدوّناته، ولكن مما قرأته وبقي في الذاكرة. لكننا – معشر أهل الصحافة والإعلام – نخاف جدًا من تكرار ما نقول وما نكتب، خصوصًا بعد تقدم العمر وتكسر النصال على النصال، كما يقول الصديق.
ومع ذلك، تظل بعض الحكايات والقصص الموحية التي تعتمل في فؤادك، حتى وإن تكررت، فلها مغازٍ ومعانٍ تخوّلك بعمقها إصلاح نفسك وإصلاح الآخرين.
ومن هذه الحكايات الودودة التي بقيت في قلبي وعقلي وذاكرتي، ما حكاه أحدهم عن صديق له يتسم بدماثة الخلق والمقبولية، وله سيرة حميدة في معاملة الآخرين، وتديّن وسَطيّ يتقبله الجميع – المصاحبون له في الفكرة والمخالفون.
قال: في أحد الأيام تعطلت سيارتي، وعندما خرج صديقي الملتزم – وكنا في مكتب واحد، وهو من غير وظيفته ابن تاجر ثري شهير – طلبت منه أن يصحبني معه إلى منزلي، الذي يقع في طريق منزله، أو بالأحرى قصرهم الكبير. لكنه اعتذر بلطف، بحجة أن لديه مشاوير مهمة لا بد أن يقضيها في حي فقير.
فقلت له: لا مانع عندي من أن أصحبك حتى تقضي أمرك، ونتوجّه بعدها إلى منازلنا. وفعلًا، ركبت في المقعد الأمامي، وعندما تحركت السيارة لاحظت وجود عشر علب من حلوى الماكنتوش الغالية الثمن، ذات الحجم العائلي.
فسألته متعجبًا: هل لديكم مناسبة بالمنزل تقتضي شراء هذه الكمية من الحلوى؟
فابتسم ولم يجبني، ولم ألح عليه.
توقف أمام أول باب قصده في الحي الفقير، وطرق الباب بلطف.
خرج طفل صغير، تبدو عليه البراءة رغم الفقر، وصاح بفرح وسعادة: “ماما، إن صاحب الماكنتوش بالباب!” وفعلًا جاءت امرأة، فسلّمها علبة الماكنتوش بأدب، ودعت له، بينما كنت أحدّق في المنظر مستغربًا. ثم انتقل إلى باب آخر، وسلم العلبة لأحد الشيوخ، ثم إلى باب ثالث فسلّمها لأحد الصبية.
وهكذا، من باب إلى باب، حتى أكمل تسليم العشر علب.
قبل أن يستقر في مقعده، سألته بإلحاح – وقد أقسمت عليه أن يحدّثني عن سر ما رأيت. فقال: “إنها حلوى للفقراء، والعيد على الأبواب.”
فقلت له ناصحًا: أما كان الأجدى أن تهديهم مالًا بدلًا من هذه الحلوى الفاخرة؟ أو حتى كيس دقيق؟ فردّ – في حياء وبعد صمت مهيب، وأقسم ألا أخبر أحدًا –:
“إني قد وضعت المبالغ داخل العلبة.”
فقلت له متعجبًا: أما كان الأسلم أن تسلّمها لهم في مظروف، يدًا بيد؟
فقال – بطريقته البسيطة الراضية –:”نعم، كان ذلك ممكنًا… لكنني جُبلت على حب الصدقات الأنيقة.”
استوقفتني هذه العبارة كثيرًا، فقد رأيت في الرجل سمات الشاعر قبل سمات الصالح المنفق. وما أحوجنا في سودان هذه الأيام إلى مثل هذه الصدقات الأنيقة الراضية.
ولكي لا نثقل على الناس، فما رأيكم في “قدور بليلة المباشر الساخنة بالملح البواح” بديلاً عن علب الماكنتوش؟ مع أن الشعب السوداني الكريم، الذي نعرفه، يستحق هدية شوقي لأحد أحبابه، ذلك “الفالوذج” الذي لم يُهدى إلى المتوكل.
(والفالوذج من أغلى أنواع الحلوى الفارسية التي كانت تُقدّم في بلاط السلاطين) والقصيدة – في معناها – أغلى من الحلوى، حيث قال شوقي في بعض أبياتها ما يستحقه هذا الشعب الأسمر الصابر الجميل، وقد غناها الكابلي في إحدى مقدماته الفصيحة.
حرصي عليك هوى ومن يحرز ثمينا ينجل
والشح تحدثه الضرورة في الجواد المجزل
أنا إن جعلتك في نضار بالحرير مجلل
ولففته في سُوسن وحففته بقَرنفل
وحرقت أزكى العود حولَيه وأغلى الصندل
وحملته فوق العيون وفوق رأس الجدول
ودعوت كل أغر في ملك الطيور محجل
فأتتك بين مُطارح ومحبذ ومدلل
وأمرت بابني فالتقاك بوجهه المتهلل
بيمينه فالوذج لم يهد للمتوكل
وزجاجة من فضة مملؤة من سلسل
ما كنت يا صدّاح عنــدك بالكريم المفضل
شهد الحياة مشوبة بالرق مثل الحنظل
والقيد لو كان الجمان منظما لم يحمل
وأخيراً عليكم أعزائي بالبليلة الأنتقة في النهارات وقرأة ديوان شوقي في الليالي المقمرات.