زيدان إبراهيم .. (في بعدك يا غالي أضناني الألم)

زيدان إبراهيم .. (في بعدك يا غالي أضناني الألم)

بقلم: أمير أحمد حمد

محمد إبراهيم زيدان علي، هكذا مدون في شهادة ميلاده لخمسة أيام خلون من شهر يونيو لعام ثلاثة وأربعين وتسعمائة وألف. عاش وحيداً بين والديه، ولكن إرادة الله جعلت وحدته كثرة، فأصبح فيما بعد كثيراً بفنه ومعجبيه. فكان زيدان إبراهيم نجماً بازغاً في سماء الفن السوداني. كان واثقاً من نفسه بأنها لن تخذله، تغلغلت روح الفن فيها حتى الثمالة. وعندما خير ما بين الدراسة والفن، ترك الدراسة التي شهدت نبوغه وتفوقه في مدرسة حي العرب الوسطى والاهلية الثانوية، التي كانت حلم كل طالب في ذلك الزمان. خرج زيدان من المدرسة وهو حاسر الرأس، كان يمني نفسه بأن يصبح موظفاً مرموقاً في زمن كانت الوظيفة تمثل واجهة اجتماعية ومصدراً للحياة الرغدة. ولكن حبه للفن جعله يضحي بأحلامه، وما كان يدري أن راتبه سوف يمنحه له الشعب السوداني حباً وإعجاباً.
فتحوا له حسابات في وجدانهم لا تنضب بل تزداد يوماً بعد يوم، حتى بعد رحيله المر قبل سبع سنوات. زيدان وهب نفسه للفن، فكان حقاً على أهل الفن أن يحتفوا به حياً وميتاً. زيدان وهبه الله صوتاً ملئ بالشجن، فكانت أغنياته كصوته تماماً، معبرة عن أشجان مستمعيه ومحبيه ببديع الألحان. فكان الصدق ديدنه لأنه يؤمن بأن الفن صدق، كما علمه أستاذه كابلي الذي احتفى به كثيراً ووقف إلى جانبه حتى قوي عوده.
وكان يصطحبه معه في كثير من جلساته الفنية. وفي واحدة من هذه الجلسات اصطحبه إلى جلسة كان يجلس فيها علية المثقفين في بلادي عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي آنذاك، والأستاذ محمد أحمد المحجوب والدكتور عمر عبد العاطي ذلك القانوني الأديب الأريب، ومجموعة من شعراء إخوان الصفا.
وفي الجلسة تغنى زيدان بأغنية تتناسب مع هؤلاء المثقفين، أغنية لشاعر عربي جهير السيرة الشاعر العربي نزار قباني. وكان مطلع الأغنية يقول (على فمي يحترق الشوق يا حبيب) فكان لحن هذه الأغنية من زيدان نفسه، فاشتعل الطرب في وجدان هؤلاء المثقفين، مما جعل كبيرهم أن يهرول نحو زيدان ويقبل رأسه ويقول له: “سوف يكون لك شأن كبير في الفن”. فصدقت مقولته وأصبح زيدان ذا شأن عظيم في الفن السوداني.
وبهذه الأغنية يعتبر زيدان أول من تغنى للشاعر نزار قباني، وليس حمد الريح الرجل الفنان. ولكن للأسف لم يهتم زيدان بأمر هذه الأغنية ولم يقم بتسجيلها ولم يحتفظ بها في مكتبته الصوتية الكبيرة.
ولعل من أوائل الأغنيات التي سجلها زيدان هي أغنية (صافيني) التي لحنها له الموسيقار الكبير علاء الدين حمزة، وهي من كلمات الشاعر حسين محمد جقود الذي غنى له الفنان إبراهيم عوض أغنية “بحنيني” وهي من ألحان أحمد زاهر.
وبعدها بدأ في تعاونه مع السني الضوي، وقد منحه أغنية من كلمات سيف الدين الدسوقي وهي (ما سالتم يوم علينا). وبعد أن بدأ زيدان في عمل البروفات تفاجأ بثنائي العاصمة يصدحون بهذه الأغنية في الإذاعة، وبالتالي لا جدوى من هذه البروفات. فكف عن ترديدها فوراً.
حسناً فعل الثنائي العاصمي بترديد هذه الأغنية عبر المذياع لأنها صنعت من زيدان ملحناً بارعاً. فقرر الاعتماد على الحانه بعد هذه الحادثة، فكان ميلاد لحن “الوداع” أو “داوي ناري” والتياعي للشاعر المصري إبراهيم ناجي، هذا اللحن أكد علو كعب زيدان في التلحين، فأكسبه ثقة في مقدراته اللحنية. وتكاد تكون أغنياته التي قام بتلحينها هي الأوفر حباً لدي معجبيه، وهذا لا يعني أن من ساهم معه في مسيرته اللحنية أقل شأناً، ولكن كانوا إضافة حقيقية له، فكان التنوع الذي أكسبه مكانة كبيرة وسط معجبيه.
فكان عمر الشاعر بالحانه الشجية، وأحمد زاهر موجوداً في “معذرة” و”أكون فرحان”. وبشير عباس كنز في ألحانه، فكانت “كنوز محبة” للرائد الفاتح كسلاوي في “بعدك يا غالي أضناني الألم”، والتي كتبها اللواء عوض أحمد، فكانت أغنية تحتل رتبة عليا في نفوس المحبين والمعجبين، فأصبحت أغنية عسكرية كاملة الدسم باعتبار أن الشاعر والملحن من المؤسسة العسكرية.
وكذلك الدكتور عبد الماجد خليفة كان موقعاً حضوراً في دفتر زيدان الغنائي، ما حصل فارقتو دربك. كما لا ننسى الملحن سليمان أبو داود الذي أضاف إلى زيدان كثيراً بلحن أغنية حبة فرح الذي جعل زيدان يغني فيها إيقاع السيرة.
لأول مرة في مسيرته الفنية تعامل زيدان مع عدد وافر من الشعراء وعلى رأسهم الشاعر التحاتي حاج موسى، الذي منحه عدداً من الأغنيات “قصر الشوق” و”ليه كل العذاب”، وجميل الأغنيات التي شكل بها ثنائية معه. وكذلك غنى للشاعر مهدي محمد سعيد أغنية “جميل ما سالناه” وعبد الوهاب هلاوي حاضراً بأغنياته الثلاث “فراش القاش” و”عشان خاطر عيون حلوين” و”لو تعرف اللهفة”.
كما غنى أيضاً للشاعر بابكر الطاهر شرف الدين في “الليلة ديك وما أدراك ما في الليلة ديك” تلك الأغنية التي سيطرت على وجدان الشعب السوداني ردحاً من الزمن، والتي تشبه في مضمونها أغنية هاشم ميرغني “حان الزفاف” من كلمات عزمي أحمد خليل. كما غنى للحلنقي “بنتأسف” وللعقاد.
كما لا ننسى ثنائيته الرائعة مع ابن حيه الشاعر الرقيق محمد جعفر عثمان، فكانت “أسير حسنك يا غالي” و”ما أصلو ريد” و”وسط الزهور مصور وجه الصبوح ومنور” وغيرها من الروائع. وهؤلاء الشعراء على سبيل المثال لا الحصر، فشعراء هم كثير يضيق المقال عن ذكرهم.
الرحمة والمغفرة للفنان الإنسان زيدان، ونسأل الله أن يسكنه فسيح جناته.