بص بس وبل بس

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

بص بس وبل بس

*القاهرة المعطاءة المسماحة الكريمة العريقة والموطأة الأكناف للقريب والبعيد، والتي يكن لها شعبنا حبا وتقديرا واحتراما.
إنها مصر الطليقة الأحداق والإشراق على مر الأزمنة والأزمات والكثيرة العشاق.
مصر الآن مذهولة بعشرات الآلاف من السودانيين المغادرين إلى بلادهم يتأملون مصر وهم يودعونها بدموع المحبة، ويستقبلون السودان بدموع الأشواق. إن الشعب السوداني كله على اختلاف ميوله وإثنياته وأصقاعه هو أيضا مذهول بهذه الكفاءة والجدارة التي تدير بها منظومة الصناعات الدفاعية، هذا المشروع الوطني الهام والخطير بعد أن أطلق القائد العام ورئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان توجيهاته الاستراتيجية لعودة ابناء بلاده، بعد أن تركوا أغراضهم حماية لأعراضهم. وقد تصدى للمهمة الفريق أول ميرغني إدريس سليمان لما عرف عنه من كفاءة وجدارة وبذل للآخرين وتضحيات جسام لصالح حرائر وأحرار بلاده.
والشمال الكبير الوسط الماهل مذهول هذه الايام بهذا التدافع التاريخي للغبش وهم يعودون لتعمير بلادهم، زادهم المنى والأمل وثقة في الله والشعب والشرعية والقيادة لا يتزعزع ولا يتراجع. وغدا ستعود ذات القافلة بأمالها والامها وتوقها الوطني الكبير صوب كردفان الغر الصابرة الصامدة الرمز ثم الى دارفور الجسارة والبسالة والانتصار حيث تحول الانسان هنالك من جسد ناحل إلى مجرد روح ترفرف في سماوات العزة والشرف.
وتواصل القافلة مسيرتها المباركة صوب النيل الأزرق المرتجى عند الملمات بالرجال والتاريخ وصوب الشرق الكبير الذي احتمل كل السودان في زمان العسر والفقر ولم تكن يوما يده سفلى وأنفه الأشم قابلا للمساومة والاذلال.
صحيح أن شعار المرحلة في التعمير والتحرير سيظل قائما على هتاف ملح الأرض والبسطاء (بل بس) لهزيمة عصابة العمالة والخيانة واللصوصية والتدمير والاغتصاب، ولن يكتمل هذا الشاعر إلا بزغرودة العفيفة على اعتاب القرى والبنادر الجريحة (بَص بس) ذلك الشعار الذي سيعلق منذ اليوم على مقدمة كل الباصات المشتاقة لهذه البلاد الموعودة بالخير وتجري من تحتها الأنهار.

+   دخل عليّ وأنا بمكتبي بصحيفة ألوان أحد الصحفيين الرواد وكان الرجل صاحب قلم سيال وخيال فياض وكان شاهداً على كثيراً من الأحداث والشخصيات ويعد من العالمين ببطون الأمور، أهدى لي أحد كتبه الجديدة وهو سفر يجمع مابين الذكريات الشخصية والأحداث والمواقف وضرب من الحكي المشوق عن بعض الشخصيات السياسية والإجتماعية والرياضية والفنية، وقد صدره لي بإهداء لطيف ومن سوء حظي وحظه فقد دخل علينا ناقد جرئ ومثقف ومتابع وفيه الكثير من اللؤم الأكاديمي وكان من أشد المتابعين للمكتبة السودانية والعربية والعالمية وبدون أي مقدمات انهال على استاذنا الصحفي العريق نقداً لاذعاً وهدماً للكتاب وخطته وحبكته، وقد طال لسانه المعلومات الوادة فيه بل أنه شكك فيها، وقال إن معظمها محض إختلاق، لم يحر أستاذنا المؤلف رداً ولا إجاباً وقد ظهرت على وجهه الحيرة وتعرق وجهه وأمسك الغضب بكلياته.
فتدخلت منقذناً للموقف ووجهت كلاماً صارماً لصديقنا الناقد فقلت له: (ياخ أنا دارس أدب وفلسفة ولي قراة في الشعر والنقد والتراجم والروايات)، ومن معرفتي المتواضعة التي إستطيع عبرها أن أصدر حكماً أن في الأدب والتأليف رؤيتان أولها أن يقوم الكتاب على المعلومة والتوثيق والجرح والتعديل وهذا مناط به كتب الفقة والفلسفة والعلوم والتاريخ، وثانيها الصدق الفني وهذا متعلق بالتأليف الجمالي والفني والأبداعي وفقد تكون الصور فيه متخيلة أو انها ما بين الصدق الفني والجمالي والصدق الواقعي وإن كانت الشخصيات المذكورة حقيقية لكنها تحتمل الترميز والأضافة والصور القلمية وأفضت في ذلك وقد أستسلم الناقد شيئاً وإفترت أسارير استاذ الصحفي الرائد بإبتسامة رضا وكساه الأرتياح وأضفت مدلل على صدقيه مرافعتي بهذه الحكاية التي تروى عن الخليفة الهادي المريض المودع وخليفة القادم الخليفة الوافر السيرة والإنجاز هارون الرشيد وهي قد عرفت في كتب الأدب بقصة الجارية (غادر).
قال الشاهد: يُحكى أنَّ هارون الرشيد ، حَجَّ ماشياً ؛ وسبب ذلك أنَّ أخاه موسى الهادي ، كانت له جارية تُسمَّى غادر ، وكانت أحظى الناس عنده ، وكانت مِن أحسن النساء وجَهاً وغِناءً ومعرفة باللطائف والأشعار، فغنَّت يوماً وهو مع جُلسائه منادماً، إذ عرض له سَهو وفكر وخاطر مقلق ، وتغيَّر لونه ، وقطع الأنس.
فقال الجُلساء : ما شأنك ، يا أمير المؤمنين ؟
ـ لقد وقع في قلبي أنَّ جاريتي غادر يتزوَّجها أخي هارون بعدي .
ـ فقالوا : أطال الله بقاء أمير المؤمنين ، وكلُّنا فِداؤه .
ـ فقال : ما يُزيل هذا ما في نفسي …
وأمر بإحضار هارون وعرَّفه ما خطر بباله ، فاستعطفه وتكلَّم بما ينبغي أنْ يتكلَّم به في تطييب نفسه ، فلم يقنع بذلك .
ـ وقال : لا بُدَّ أنْ تحلُف لي !
ـ قال : لأفعل .
وحلف له بكلِّ يمين يحلف بها الناس : مِن طلاقٍ ، وعِتاق ، وحجٍّ ، وصدقة ، وأشياء مؤكَّدةٍ ، فسكن .
ثمَّ قام فدخل على الجارية، فأحلفها بمثل ذلك، ولم يلبث شهراً ثمَّ مات.
فلمَّا أفضت الخلافة إلى هارون ، أرسل إلى الجارية يخطبها …
ـ فقالت : يا سيِّدي كيف بأيمانك وأيماني ؟!!
ـ فقال: أحلف بكلِّ شيء حلفت به: مِن الصدقة، والعتق وغيرهما إلاَّ تزوَّجتك
فتزوَّجها، وحجَّ ماشياً ليمينه، وشُغف بها أكثر مِن أخيه، حتَّى كانت تنام فيُضجع رأسها في حِجره، ولا يتحرَّك حتَّى تتنبه، فبينما هي ذات ليلة، إذ انتبهت فزعة…
فقال لها: ما لك ؟!
فقالت : رأيت أخاك في المنام الساعة وهو يقول :
أخلفت وعدك بعدما جاورت سُكَّان المَقابر ونسيتني وحنثت في أيمانك الكذب الفواجر فظللت في أهل البلاد وغدوت في الحورالغرائز ونكحت غادرة أخي! صدق الذي سمَّاك غادرلا يهنك الإلف الجديد ولا تدُر عنك الدوائر ولحقت بي قبل الصباح وصرت حيث غدوتُ صائر…
والله ـ يا أمير المؤمنين ـ فكأنَّها مكتوبة في قلبي، ما نسيت منها كلمة.
فقال الرشيد : هذه أضغاث أحلام .
فقالت: كلاَّ ، والله ما أملك نفسي … وما زالت ترتعد حتَّى ماتت بعد ساعة.

<span;><span;>- صمتنا نحن الثلاثة بعد أن حكيت القصة فكأنما حار فكرنا مثل فكر الهادي حين تذكر رحيل غادر هنا غادر الناقد على أمل العودة لأكمال النقاش معي بمفردي وأعتذر ملياً لكاتبنا وأستاذنا الصحفي الكبير، وبعد أن خلا الجو بينا شكرني شكراً عميقاً وقال لي هامساً تري أين أجد كتاباً في النقد يجمع بين نظرية التأليف الواقعي والتأليف الفني. فقلت له ضاحكاً اني لا أعلم كتاباً بهذا الأسم ولكن هذه بعض الشذرات التي وردت في خاطري من قرأت شوارد وقد إستيقظت في خاطري عندما رأيتك غارقاً (في هذه الورطة الكبيرة) ضج بعدها بضحكة صاخبة وأفترقنا وقد بددت الليالي تلك الذكريات فلم تعد هناك صحيفة ولا دارة لصحيفة ولا رواد ولا حتي معاصرين عفت الديار فلا كريم يرتجي منه النوال ولا مليح يعشق.