لهف نفسي على دارفور البسالة وكردفان الأصالة

ولألوان كلمة:
لهف نفسي على دارفور البسالة وكردفان الأصالة
لهف نفسي على بوادي دارفور وكردفان التي كانت حتى بالأمس القريب تعجُ بثروات النبات ومحاصيل النقد والثراء وتموجُ بواديها بالأنعام لبنا ولحما وعزة وكفاية.
لهف نفسي على بعض القبائل التي كانت حتى بالأمس القريب تفتح احضانها لضيوف الهجعة وتأوي المستجيرين وتذبح الذبائح قبل أن ترد السلام، لهف نفسي عليها وقد صارت تغلق الخلوة في وجه القريب وتفتح المعسكر القاتل في وجه الغريب.
لهف نفسي على تلك الديار التي كانت تعج بالأفراح والأعراس والموائد والأغاني والأناشيد والتواشيح والأماديح وبوح الأنفس السعيدة، فصارت اليوم تعجُ بالثاكلات والأرامل والشيوخ المعدمين والجرحى،لهف نفسي على الشباب الذين أصبحوا وقودا للمحرقة بقلب المعركة العدمية لقاء دراهم معدودات.
لهف نفسي على النظار والأمراء وحكماء القبائل الذين تحولوا لقطاع طرق ودعاة فتن وأصبحت بيوتهم العامرة حتى الأمس القريب بالفضيلة مخازنا للمال المسروق والارث الحرام، لهف نفسي عليهم وهم يحرضون ابنائهم على قتال لا خير فيه ولا عقيدة ولا وطنية كأنهم لم يخرجوا من أصلابهم ولم يطلقوا صرخة البداية من أرحام حلال.
لهف نفسي على العفيفات اللائي كن حتى بالأمس القريب صانعات لقِرى الضيوف ومتسربلات بالحياء والأنفة والكبرياء، فصرن اليوم بعد جريمة عصابة دقلو التي بددت كل جميل وأصيل، صرن بائعات شاي في المواقف والمنعطفات وأطراف البنادر الخائفة المعدمة، فصارت (بنات القبائل) خادمات للمنازل وأجيرات في مدن الجوار.
لهف نفسي على الشاعر الشعبي الفنجري الناطق باسم الفجيعة وهو يتمرغ في تراب الحسرة مبتدرا مسدار التوجع:
قبيل ما كنتو في حسبتنا راس المية
اتلفحتو بالشينة وسواد النية
ما دام العفيفة اتأجرت يومية
بتضوقو المزلة وخدمة المهرية
من الهدايا:
كثيرًا ما ينال الفضلاء والأخيار، والأشراف والأمراء الناصحون، حيفًا كثيفًا ومظالم في عهود الاستبداد السياسي، من السلاطين والخلفاء والحكام المستبدين.
وعندما يقع هذا الظلم البيّن — وغالبًا ما يكون عن تجاوز أو وشاية — يهرب المنافقون من أهل المصالح والأغراض، من هؤلاء كما يهرب السليم من الأجرب، ويهلّون — كعادتهم — صوب السيد الجديد، ويتسحّون بأثواب السلطة وأحذية السلطان، بل ويشاركون، بأصوات عالية وخبيثة، جوقة الشاتمين والهجّائين والكذَبة، كأنهم ما نالوا بالأمس حظهم من ذلك القتيل، أو السجين، أو الطريد.
وهذه — لعمري — من دناءات البشر التي لا تُنسى ولا تُغتفر.
ولذلك، نجد أن أهل المعارف والتوثيق والأدب، ممن عرفوا بقيمة أهل الفضل، يحتفون بسيرة الشاعر أبي الحسن الأنباري؛ ليس لأنه شاعر مجيّد فقط، بل لموقفه الأخلاقي حين وقف بين يدي صديقه الأمير القتيل المصلوب، ورثاه بقصيدة سارت بها الركبان، مع أنه كان يعلم أن الباطش والبطش سيناله، لكنها النفس الأبية، والخلق الوعر، وتلك الفضائل التي لا تخرج إلا من شاعر مطبوع، ونخوة وبسالة خرج بها لوجه الله والحرية.
قال الشاهد: إن خصومة وقعت بين محمد بن بَقِيَّة — وزير عِزّ الدولة بن بُوَيه — وابن عمه عضُد الدولة، ظفر فيها عضد الدولة، فقبض على ابن بقية وقتله بين أرجل الفيلة.
ولم يكتفِ بذلك، بل صلبه، وظل مصلوبًا إلى أن مات عضد الدولة نفسه.
وحينها، حضر الشاعر إلى مكان صلبه، فتحسر عليه، لما له عليه من نعماء وأيادٍ بيضاء، فكتب قصيدته على عدد من النسخ، ألقاها في الطرق.
فلما وصلت إلى عضد الدولة، قال:
“لقد تمنيت أن أكون أنا المصلوب، وأن القصيدة قيلت فيَّ.”
علوَّ في الحياة وفي الممات
لحقٌّ أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا
وفودُ نَداك أيام الصِّلات
كأنك قائم فيهم خطيبـــــــــًا
وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاءً
كمدِّهما اليهم بالهِبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
عن الأكفان ثوبَ السافيات
لعُظْمك في النفوس تبيت تُرعى
بحرّاس وحفّاظ ثِقات
وتوقَد حولك النيرانُ ليلا
كذلك كنت أيام الحياة
ركبتَ مطيةً من قبلُ زيدٌ
علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأسٍّ
تباعد عنك تعيير العداة
ولم أرَ قبل جِذعك قطُّ جِذعًا
تمكّن من عناق المَكرُمات
أسأتَ الى النوائب فاستثارث
فأنت قتيل ثأر النائبات
وكنتَ تُجيرُنا من صَرْف دهر
فعاد مطالبًا لك بالتِّـرات
وصيَّر دهرك الاحسانَ فيه
إلينا من عظيم السيئات
وكنتَ لمعشر سعدًا فلما
مضيتَ تفرقوا بالمنحِسات
غليلٌ باطنٌ لك في فؤادي
يُخفَّف بالدموع الجاريات
ولو أني قدَرتُ على قيام
بفرضك والحقوق الواجبات
ملأتُ الأرض من نظم القوافي
ونحت بها خِلافَ النائحات
ولكني أصَّبر عنك نفسي
مخافة أن أُعَد من الجناة
وما لك تربة فأقول تُسقى
لأنك نُصبُ هطْل الهاطلات
عليك تحيةُ الرحمن تَترى
برَحماتٍ غوادٍ رائحاتِ
حاشية: كثيرون هم الذين تنكر لهم الأصحاب والتلاميذ والأصدقا٣ء في لحظات العسر والاختلاف مع الحاكم فإذا أردتهم المقارية داخلياً فأقروا سيرة عبد الله بك خليل ومحمد أحمد المحجوب وأحمد خير المحامي وعبد الخالق محجوب والشيخ الدكتور حسن الترابي والقائمة تطول فأن أضفنا إليها عددا من القيادات العربية والإسلامية عبر كل الحقب واشهرهم ابو مسلم الخرساني وأحمد بن الحسين المتنبي واللواء محمد نجيب من المعاصرين، لصار كتاباً يزدحم عليه أهل الاقتناء والقراءة والعبرة.