ليل وجوع وقتل وجراح

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
ليل وجوع وقتل وجراح
إشاعة
للمرة الخامسة يطلقون إشاعة لمغادرتنا لهذه الفانية (خمسة مرات يا مفترين)، شكرا نبيلا لكل الذين اتصلوا بنا يسألون عن الإشاعة، أطال الله عمر الجميع في الصالحات.
ولي دعاءٌ من زمان بعيد مفاده ” اللهم لا تجعلنا نغادر هذه الفانية إلا بعد أن نرى رأي العين راية التوحيد وقد رفرفت في كل العواصم من طنجة إلى جاكارتا” فإن حدث هذا وليس على الله ببعيد فترحموا علينا فنحن لا نطمع إلا أن نكون من فقراء الجنة.
ولكي نُخرج الناس من وعثاء الإشاعة تحضرني إحدى اللطائف عن الضابط الشاعر الكبير والدبلوماسي الراحل الادروب المعذب في الأرض أبو آمنة حامد، أن صحيفة الانقاذ في بداية التسعينات التي كان يترأس تحريرها الاستاذ الراحل موسى يعقوب نشرت في صفحتها الأولى خبرا مفاده رحيل الاستاذ الشاعر أبو آمنة حامد صاحب تلك الروائع من الفصحى والعامية، وأفاضت في القول عن مزايا الراحل ولم يكن الخبر صحيحاً.
ولأن الهواتف السيارة لم تنتشر بعد حكى لي الاستاذ الشاعر الوزير عبد الباسط سبدرات رد الله غربته بالحكاية التالية على طريقته اللطيفة في السرد مما يجعله احد زعماء الابداع والمؤانسة في بلادنا قال: حين سمعت الخبر المفجع برحيل صديقنا الشاعر الظريف أبو آمنة هرعت جزعا إلى منزله الكائن باحدى الأحياء الشعبية بالخرطوم بحري، وقبل أن نغادر الخرطوم أمرت السائق أن يقف في إحدى البقالات الراقية واشتريت جوالا من السكر ودسست مبلغا محترما في ظرف واتجهت صوب بيت العزاء.
وعندما دلفنا إلى الشارع الفرعي المعهود لم نجد سرادق العزاء ولم نجد اهل بحري المحتفين بالرجل وأشعاره ونكاته وسخريته من الناس والحياة. توقفت السيارة أمام منزله وكان هنالك احد جيران أبو آمنة يقف ببابه فسألناه وقبل أن يجيب أطل أبو آمنة مسرعا ودهمني قائلاً : (أنا حي ولكني لا أرزق يا عبد الباسط وعلي الطلاق الجبتو ما بترجع بيهو) .
عانقته طويلا وبكينا معا ولم أصدق بأن أعين أبو آمنة قد أبقى بها الزمان البائس من دموع، أمرت السائق أن يحمل جوال السكر إلى داخل منزل المرحوم الحي ودسست في يده المظروف المالي برفق. ودعته وأسرع ليقف خلف الباب فقاطعته: إلى أين أنت ذاهب يا أبو آمنة؟
قال بضحكة مجلجلة: ذاهب لأقف وراء الباب منتظرا ضحيةً أخرى.
رحم الله أبو آمنة فكلما أضاءت سيرته أطلت رائعته:
الرهيف قلبو
بيعيش في شكو اكتر من يقينو
تستبيهو نظرة جارحة
وتحترق بالحب سنينو
ما نسيناك ما جفيناك
جايي تعمل ايه معانا .. بعدما ودرتنا
لم يكن أبو آمنة الرامز يخاطب حبيبته، بل كان يخاطب كل ما افتقده من بلاده من مودة وشوق ورضا .. إنا لله وإنا إليه راجعون.
يا شيخنا مالك علينا
بعد فصلي وإبعادي عن مدرسة أم درمان الأهلية إبان ثورة شعبان عام 73، بعد أن أكملت السنة الأولى، تم فصلي مع اللجنة التنفيذية لاتحاد مدرسة أم درمان الأهلية التي كانت تقود التظاهرات آنذاك ضد الحكم المايوي.
تم فصلنا عن الدراسة ورفضت كل المدارس، حتى المسائية، قبولنا بعد أن جاءها توجيه صريح من جهاز الأمن أن هذه المجموعة تُمنع تمامًا من الدراسة.
وقد أصبح إلزام الوالد بعد ذلك في محلاته التجارية بالخرطوم بحري وأم درمان، وكانت محلاته للأقمشة في سوق أم درمان تفتح مباشرة على جامع أم درمان الكبير العتيق.
وعندما كانت تهدأ النوبة الأولى للبيع والشراء ما بعد الثانية عشرة ظهرًا، كنت أتسلل إلى حلقات الدرس بصحن المسجد.
وقد ذكرت من قبل أنني قد أفدت كثيرًا من حلقات التفسير والفقه وعلم الرجال، وجلسات التذوق العرفاني في المجموعة النبهانية في مديح المصطفى صلى الله عليه وسلم.
كما كان هناك شيخ لطيف اللغة والسردية، كان يدرس السيرة بطريقة خاصة، عميقة وأخاذة، وبِلُغة في متناول الجميع.
وكانت هناك مجموعة من البكّايين، الذين كلما تناول بعضُ أحزان المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعاناته في سبيل الدعوة وتطاول المشركين عليه وعلى أصحابه، كانوا يبكون في عويل، وتتدفق دموعهم العطرات حتى تبلل اللحى والأرض.
وأذكر تمامًا يوم أن حكى الشيخ عذابات المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الطائف، يوم خرج عليه الصبية والمجانين وحثالة أهل الطائف يقذفونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفين.
وعندما وصل الشيخ إلى الموقف المبكي، حيث خاطب المصطفى صلى الله عليه وسلم في رجاء مهيب أهلَ الطائف أن يُمسكوا عن تفاصيل زيارته هذه عن أهل مكة لأنه كان يخشى الشماتة، فأدركت منذ يومها قسوة شماتة الأعداء والأصدقاء.
هنا كانوا يتصايحون في بكاء عميق حتى تتوقف بقية المجالس والحلقات.
أما قمة الدموع التي تمسح ما ران على القلوب من جفوة، فهي يوم يُحكى عن رحيل المصطفى صلى الله عليه وسلم من دار الفناء إلى دار البقاء.
وحين يصل الشيخ إلى بيت القصيد، حيث خرجت السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وعن عِترتها الشريفة، باكية مهيضة الجناح، وكسيرة الخاطر بعد رحيل المصطفى، وقفت على جانب الطريق حتى صدر القوم من الصحابة من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقابلت خادم رسول الله، الصحابي أنس بن مالك (ود البيت)، فقالت له معاتبة في عبارة ظلت عالقة في خاطر أنس، يبكي كلما تذكرها إلى أن مات.
وقالت: “يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟”
وبكت وأبكت أنسًا بهذا السؤال، وبكى الحاضرون.
وفي هذا المقام كان يضج جامع أم درمان العتيق بالبكاء والعويل، وما أقسى عويل الرجال حين يبكون بدمع فيّاض وأرواحٍ مسافرة.
وكان قائد المجموعة من البكّايين يقول بصوت مليء بالأسى: “مالك علينا يا شيخنا، مالك علينا، ما كفاية الباقي فينا؟”
ولا يهدأ القوم عن هذا البكاء النبيل، إلا حين يرتفع صوت المؤذن، ويطل الشيخ حامد عمر الإمام، عليه الرحمة، ليؤم الجميع ويصافحهم واحدًا واحدًا.
نعم، لقد بقيت الدموع كما هي في أم درمان، ولكن ما بين تلك الدموع وهذه فرق نوع وفرق مقدار، كما يقول أهل التصوف الكبار المؤدبون بالزهد والسنة. وفي جامع أم درمان كانت لنا أيام.
أما الراية البيضاء فلا…
وبطريقة صادمة، غادر الوفد الأمريكي والوفد الإسرائيلي الدوحة، قاطعين مجرى الحوار حول إيقاف الحرب اللعينة في غزة الجريحة، دون إبداء أي أسباب.
فقط لأن حركة حماس قالت إنها تريد ضمانًا بأن إسرائيل لن تعاود الحرب بعد الـ 60 يومًا للهدنة، وبالطبع رفضت أمريكا وربيبتها إسرائيل المطلب الذي اتفق عليه العالم، أن واشنطن وتل أبيب لا يريدان سلامًا في غزة، يريدان استراحة محارب مجرم حتى يرتبوا صفوف الأوغاد المقاتلين، وتركيب القنابل الجديدة، والعودة لممارسة المذابح التي لم يشهد لها العالم مثيلًا.
صحيح أن مواكب الشهداء صوب الجنة لن تتوقف عن غزة العِزة، لكن ما يُدهش تحالف الصهاينة والصليبية أنهم، رغم المجازر والقتل بالتجويع، وحريق الأطفال والأرامل بالقنابل الأمريكية العمياء التي تأكل الحجر والشجر والبشر، إلا أن الراية البيضاء أبت أن ترتفع في أرض الجبارين والمتمردين على الصلف الاستعماري الجديد.
أما ما يلف العالم الإسلامي من مهانة ومذلة واستكانة في زمان الغفلة، فإننا ما زلنا نحاول جاهدين البحث عن مفردات تصلح لتوصيف هذا السقوط التاريخي.