لن يموت شعب تجمّله مثل هذه الأسرة المباركة

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
لن يموت شعب تجمّله مثل هذه الأسرة المباركة
يخطىء من يظن أن البركة والرشد والقدوة قد انقطعت بانقطاع الوحي ورحيل المصطفى صلى الله عليه وسلم واستشهاد آخر الخلفاء، فإن هذه الأمة الراشدة بصحابتها والتابعين وتابعي التابعين والمهديين والمسترشدين والمقتدين بسيرتهم ستتواصل أجيالها جيلا بعد جيل للعطاء والرحمة إلى قيام الساعة.
نعم، كانوا صحابة رسول الله ولكن الذين ياتون في آخر الزمان هم أيضا من إخوانهم، ورغم بعد الزمان والمكان إلا ان أعينهم وأفئدتهم ستبقى ممتدة إلى ذلك النور المحمدي، والقبس الهادي دون أن يشاهدوه أو يستمعون له أو يملأوا أعينهم من وجهه الوضيء بالرحمة والعلم والعطاء. وهذه أمة لم تنقطع أبداً عنها المعجزات ولا الكرامات ولا العلم المبين، ويكفي استدلالا على ذلك أن الله سبحانه وتعالى يمد هذه الأمة المسلمة الموحدة منذ فجر التاريخ بالعلماء والذين اختصوا ببعض العلم اللدني، وفقه التأويل ما لا يدركه حتى الأنبياء والرسل أولو العزم، وهذا فضل الله، والله يهدي فضله لمن يشاء من عباده، والله ذو فضل عظيم.
وقصة الخضر، العبد الصالح، مع النبي الرسول موسى عليه السلام شهيرة توثيقا في القرآن وفي السنة وفي التفسير.
وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا (62) قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا (63) قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا (64) فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا (65) قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (67) وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا (68) قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا (69)
وأهل السودان من الصالحين والعبًاد والزهاد والمجاهدين القدامى والمعاصرين لهم الكثير من الكرامات التي تصلح للتوثيق والتداول وهي أدخل في مقام (ورفعنا لك ذكرك) فهذا شعب مبارك ومحفوظ توجب علينا أن نوثق لمواقعه وأحداثه ومعاركه وشهدائه وشهيداته. وقد اتصلت قبل أيام بمجموعة من الأخوة المهتمين بأدب التوثيق والحفظ والمشاهد والشهداء أن يمدوا الصحيفة والقناة والإذاعة القادمة بإذن الله شيئاً من هذا التأريخ الناصع في مسار أمتنا في هذا المنعطف الخطير خوفا من أن يندثر بمرور الأيام والليالي خاصة أننا أمة مصابة بموهبة الشفاهية والنسيان والعبورعلى عظائم الامور وأشرافها دون تسجيل أو توثيق.
اتصل بي أحد الأخوة موثقا لمعارف وكرامات لمجموعة من الأسر السودانية الكريمة التي قدمت أنبل أبنائها من الذين حملوا اسلحتهم وتركوا من ورائهم الدنيا والشهادات والوظائف واختاروا رضا الله والوطن متطلعين إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
قال الشاهد، نحن أخوان عند ابينا ووالدتنا وقد بلغا من العمر مبلغا من الضعف يستدعي الرعاية، فسبعون عاما قصرت الخطى في أبي وأمي، وأنا الإبن الأكبر وأعمل بالسوق (والحالة مستورة) ويعدني أهلي وأحسب نفسي أنني في درجة دنيا من الطبقة الوسطى ولي أخ خريج هندسة من جامعة معتبرة وأكمل تدريبه وحصل على وظيفة في إحدى العواصم العربية وكان يستعد للسفر إلى أن حدثت النكبة واحتل البغاة الخرطوم وأعملوا فيها أنيابهم وأظافرهم المسمومة قتلا ونهبا واغتصابا. نسيت أن أقول أنني متزوج منذ خمس سنوات ولم أرزق ذرية وقد خفت الموالي من ورائيا، وقد راجعت مجموعة من الأطباء أثبتوا جميعا بعد الفحص داخل وخارج السودان بأني عقيم، وقد نزلت علي هذه المعلومة نزول الصاعقة لكنني صبرت على الابتلاء وصبرت زوجتي وهي ذات خلق ودين منسولة من أسرة طيبة وعرق كريم وأصرت أن تبقى معي رغم أني خيرتها بالمفارقة فلها الحق في أن تنجب وترزق أبناء يعينون على نوائب الدهر لكنها تأبت في رفعة تليق (ببنات القبايل).
وذات صباح بعد صلاة الفجر والخرطوم معتكرة بعد هجمة عصابة دقلو المجرمة، ودع أخي والدي ووالدتي واسترضاهما فسمحا له بأن يلتحق برفاقه من المجاهدين في ساحات الوغى ومعركة الشرف الوطني. قالدته طويلا وبكيت وبكى على صدري وما أقسى دموع الرجال في تلك اللحظات. انخرط أخي في القتال وكانت تصلنا بعض الأخبار أنه كان يقاتل كالليث في المقدمة لشهور إلى أن حضر لي ثلاثة من أصدقائه ذات صباح حزين ورصين وأخبراني باستشهاده مقبلا غير مدبر وهو يواجه في رجولة ونخوة وكبرياء فيلقا من المرتزقة وقد نال منهم وسقط أخيرا مضرجا بدمائه الطاهرة عنوانا صريحا لإخوانه بالسير في طريق الحق والتوحيد ودفن مع مجموعة من الشهداء في مكان قصي بالمدينة لكنه مشهود ومعلوم.
وقد حيرني هذا الصبر المجنح والمهاجر في سماوات الرضا لأمي وأبي والذين قابلوا الخبر بالتهليل والتكبير وقال أبي في صبر يقاس عليه في الإيمان (ومن قال أن الشهداء مدعاة للحزن والانكسار والدموع، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبله ويشفعه فينا مع قبوله وصحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أعالى الجنان مع الأخيار والأطهار).
ذهبت بعد أسبوع بعد خبر الشهادة إلى أحد الصالحين في خلوة قريبة منا كنت أحفظ عليه القرآن فحدثته عن شهادة أخي فاستبشر وهلل وكبر كما فعل أبواي، وقال لي بصوت فيه الكثير من التبتل والعمق والطمأنينة إن شاء الله سترزق بإبنك البكر ببركة هذا الشهيد ويتسمى بإسمه)، قلت له أنى يكون لي ذلك؟ قال ألم أحدثك يوما بمقام (هنالك) قلت نعم ولكنني قد نسيت، فقرأ على مسامعي آية مريم عليها الرضا والسلام:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ (38) فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ (40)
وقام الرجل بتفسير لدني لكلمة (هنالك) في الآية ما يصلح بأن يصدر به كتاب ونصحني بأن أبحث جاهدا عن قبر الشهيد، وأضاف، (وهنالك) توقف إجلالا على أعتاب القبر المهيب للشهيد وأدعو بإلحاح كما دعا زكريا ولا فرق في هذا المقام ما بين مريم الصديقة وشقيقك الشهيد فإن هذه مقام انتهاز الفرصة الحميدة، وفعلا إطمأن قلبي للنصيحة وذهبت مع أصدقائه المجاهدين فدلوني على مكان القبر الطاهر في أقصى المدينة وكما نصح الشيخ الصالح فقد توقفت عند أعتابه وسلمت عليه وترحمت وبكيت طويلا وهنالك دعوت ربي أن يرزقني إبنا كما رزق زكريا بيحي، وبعد تسعة أشهر بالتمام والكمال رزقت إبنا سميته بالشهيد وغمر بيتنا فرح شفيف وطمأنينة أظلت أمي وأبي وزوجتي، والشهيد الصغير الآن بين أيدينا ندعو له من كل قلبنا أن يشهد تحرير كل العالم الإسلامي من قيد العبودية والمذلة والاستكانة وتعود هذه الأمة الراشدة قائدة لركب الإنسانية صوب العز والشرف والخير والسلام.
وهذه دعوة لكل البيوت السودانية وكل المعسكرات وكل ساحات المعارك والجهاد والمجاهدة ان يراسلونا بمثل هذه النفحات، ففي اطلاق عطرها افتضاحا لتلك القيم التي قررت المؤامرة اغتيالها في قلب هذا الشعب المطمئن المؤمن الباسل ولكن أنى لهم وهيهات.