حكومة المليشيا .. كشف خيوط المؤامرة

جلبت لها كل ساقطة ولاقطة من عويش السياسة

 

حكومة المليشيا .. كشف خيوط المؤامرة

كتب: عبد اللطيف السيدح

لم يكن السودان يومًا دولة ضعيفة تسقط بريح عابرة، ولا شعبه طينًا طريًا يُعجَن في أواني المحتلين، لكن ما حدث خلال السنوات الأخيرة من تاريخ هذا البلد العريق، يكشف عن أبشع مراحل الاستهداف، حين يصبح سلاح الخصم هو أبناء الوطن أنفسهم؛ يبيعون سيادته لقاء دراهم معدودة، أو تمكين موهوم، أو وهْم سلطة مُجرّدة من الكرامة، إن ما يسمى بحكومة تأسيس التي أعلنت عنها المليشيا ، ليست سوى عصارة عفن سياسي ملوث بالدماء، ممزوج بخيانات التاريخ، ومطعمة بتدخلات أجنبية سافرة، أرادت أن تمسك بخيوط اللعبة من الخارج، عبر وكلاء فقدوا آخر صلاتهم بالشرف الوطني. هذه ليست حكومة بالمعنى الذي تعرفه الأمم، بل مجرد كيان هجين، سقط من رحم مشروع تآمري بائس، رعته قوى خارجية، وشرعنته ألسنة ميتة لا تنطق إلا بما يُملى عليها من وراء البحار.
في هذا التقرير، نغوص في أعماق المؤامرة. نفكك رموز هذه الحكومة المسلطة على رقاب الناس، نكشف خلفيات تكوينها، ومن يقف وراءها، ونسأل هل يمكن أن يحكم السودان من لا يعترف بجغرافيته، ولا يحترم دمه، ولا ينتمي إلى وجدانه؟ وهل يمكن لمليشيا أن تبني دولة؟
وهل تسقط الأمم بسلاح الهشاشة؟ أم ترتفع رغم الطعنات، وتكتب من رمادها ملحمة الخلاص.

 

الأيادي الخفية

 

إن قراءة متأنية لمشهد التكوين السياسي الأخير تكشف دون لبس أن الحكومة المعلنة ماهى إلا نتاج صفقة مشبوهة، رعتها قوى إقليمية ودولية ذات مصالح مباشرة في تفتيت ما تبقى من السودان، وتحويله إلى ساحة نفوذ مفتوحة، تعبث فيها مخابرات الدول وتُدار من خلف الكواليس، لقد جاءت هذه الحكومة بعد أشهر من التمهيد الإعلامي والميداني، حيث سُوّقت الأكاذيب، وجرى تضخيم “انتصارات” مليشيا مدعومة بالسلاح، والمعلومات، والدعم اللوجستي، ثم بدأت مرحلة “تلميع القتلة” وتقديمهم بلبوس سياسي، فكان لا بد من صناعة سلطة، وإن كانت شكلية، تلبسهم عباءة الدولة وهم عراة من كل قيمة، ولم تكن العواصم التي اجتمعت خلف هذا المسخ السياسي بريئة، بل تقاطعت مصالحها على عدة أهداف منها: تأمين الممرات الجغرافية عبر السودان. والسيطرة على الموارد (ذهب، مياه، أراضٍ خصبة). والقضاء على آخر جيش نظامي في المنطقة. وتوطين شتات من المرتزقة والمجموعات العابرة للحدود. وإغراق السودان في فوضى لا نهائية.

 

سواقط التنظيمات

 

ما أُعلن عنه بوصفه “حكومة” ماهو إلا مجرد خلطة شائهة، جمعت بين سواقط التنظيمات، ومأجوري المرحلة، و”عويش” السياسة، أولئك الذين تربّوا على موائد السفارات، وتغذوا من حليب العمالة، والوطن عندهم مجرد سلعة قابلة للتفاوض، فالروبوت الذي سيجلس على الكرسي، لم تأتِ به إرادة الناس، بل عُيِّن كما تُعيَّن لجنة لتسيير عمل مسلخ مهجور. لا تعليم لا كاريزما، لا عمق، لا رؤية، فقط ورقة كتبت في مقر خارجي، وأُعلن عنها بتوقيع المليشيا. أما الوزراء، فمنهم من لا يعرف موقع وزارته على الخريطة، ومنهم من جاء من بؤس المنظمات أو خيام اللجوء السياسي، أو من حفرة عميقة من الغياب الأخلاقي.

 

إهانة أمة دارفور

 

ما أعلن عنه الشيوعي الحاقد علاء الدين نقد ما هو إلا حكومة لإدارة الخراب وليس السلام كما يزعمون ، وقد ماتت هذه الحكومة في اللحظة التي وُلدت فيها، لأنها ولدت ميتة، ولأن الشعب لم يعترف بها، ولم يمدّ لها الحبل، ولم يعقد معها عهدًا.

 

الكيان الصهيوني

 

من لم يرَ أثر الكيان الصهيوني في هذا العبث، فهو إما مغفل، أو شريك. فالمخطط ليس وليد اللحظة، بل قديم قدم الأطماع. لقد ظل السودان – بثرواته وموقعه – في مرمى البصر الإسرائيلي، لا سيما بعد أن أحبط مشروعهم في عهد الإنقاذ بدعم حركات المقاومة، واستقبال قادة الجهاد الفلسطيني واليوم، وقد تهشمت الدولة، جاء وقت اقتناص الفرصة، فالكيان لم يرسل جنوده، بل اكتفى بإرسال خبرائه، ومستشاريه، ومموليه، وأذرعه الإعلامية، وتنسيقاته الأمنية مع أطراف إقليمية تدور في فلكه. وقد كان هدفهم واضحًا ضرب الجيش الوطني وتفكيكه من الداخل، وإنشاء بدلا عنه مليشيا قابلة للتطويع، وتعيين حكومة تتبع لهم حرفيًا، تؤمّن الحدود الجنوبية، وتقطع الامتداد العربي والإسلامي الحقيقي في القارة السمراء، وتحول السودان إلى مفرخة فوضى لا تنتهي، حتى لا تقوم له قائمة في محيطه، إن ما يجري ليس فقط اغتيالًا سياسيًا، بل اغتيالًا وجوديًا، يُراد فيه طردنا من ذاكرتنا، وهويتنا، وبلادنا.

 

المليشيا القبلية

 

لم تعد المليشيا اليوم هي ذاتها التي أنشئت من أجل حماية الحدود، أو قوة لحماية الهامش، أو حركة مطالبة بالعدالة، أو حركات مسلحة ذات قضية، لقد تحولت بالكامل إلى أداة استعمار حديث، تماثل جيوش الاحتلال ولكن بوجه محلي. والفرق الوحيد أن المستعمر القديم كان غريب اللسان، أما هذا الغول القبيحة الذي حل ببلادنا، فمحلي اللسان، غريب الانتماء.

 

النخب المدجنة

 

ليست المشكلة في العدو المتآمر، بل في الصديق الذي خان
في السياسي الذي لبس ثوب العقلاء، وهو يرتب مع الغزاة
في النخبة التي تحولت من ضميرٍ ناطقٍ إلى صوتٍ مدفوع الأجر، لقد اصطفت حول هذه الحكومة جوقة من الانتهازيين القدامى، وتُجّار الشعارات، ومنتهيي الصلاحية السياسية، ومن تبقى من أجهزة الأحزاب المتآكلة، ليقدّموا لها شرعية وهمية. يتحدثون عن السلام وهم في حضن الحرب، عن الحرية وهم في كنف الاستبداد، عن الديمقراطية وهم يسلمون البلاد لمن لا دستور له ولا لغة سياسية غير البندقية، إنهم الوجه الداخلي للخيانة، لأنهم يختبئون خلف الكلمات، ويبيعون الوطن بسعر التأشيرة أو التعيين أو المكافأة.

 

الإحلال السكاني

 

إن أسوأ ما يُرتكب اليوم في حق السودان، لا يقف عند حدود السرقة والقتل، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة تفريغ الأرض من أهلها، وتوطين آخرين مكانهم. إنه إحلال سكاني بصيغة جديدة، مخطط له، مدعوم دوليًا، ومموّل من عدة جهات ذات صلات استخبارية وأطماع إقليمية، تُمنح فيه الجنسية السودانية لعابري القارات، وتُباع فيه الأراضي باسم الاستثمار، تُفتح فيه الحدود لقبائل ومرتزقة ومليشيات لا علاقة لها بالسودان أرضًا ولا دمًا، ويُهجّر فيه السكان الأصليون من ديارهم بغطاء “النزاع”، وتُمنح مساكنهم لقادمين جدد بغطاء “التوطين الإنساني.

 

تصفية الجيش

 

لطالما كان الجيش السوداني، رغم ما مرّ به من تحديات، هو صمام أمان الدولة، ودرعها في وجه المؤامرات الخارجية. ولذلك، كان الهدف الأول للمخطط الشيطاني هو تجريده من هيبته، وإنهاكه، وتفكيكه، وتشويه سمعته. فجأة يصبح الجيش هو المعتدي، بينما المليشيا القاتلة توصف، بحكومة السلام، ويُمنع عن الجيش السلاح، بينما تُفتح السماء للمليشيا لتستورد الطائرات المُسيّرة، وتغرق قيادات القوات المسلحة في التهم، وتُستهدف معسكراته في وضح النهار، ويُقدَّم للعالم على أنه عدو السلام، بينما الذين يقصفون القرى ويغتصبون النساء يوصفون بـ”الشركاء
لقد إنقلبت المعايير ولم تعد الدول تُبنى بالجيوش الوطنية، بل بمليشيا تحرس مصالح الخارج، وتنفذ أوامر الحلفاء الإقليميين، إن ما ستفعله المؤامرة بالجيش، ليس مجرد استهداف، بل محاولة قتل بطيء للدولة السودانية، بإفراغها من ذراعها العسكرية، وتسليمها بالكامل إلى عصابات مرتزقة.