
إسحق أحمد فضل الله يكتب: (بقايا العطر في الزجاجة)
مع إسحق
إسحق أحمد فضل الله
(بقايا العطر في الزجاجة)
والعطور الجيدة تبقى رائحتها في الزجاجة بعد نفاد العطر،
والسودان مثلها.
وقرأنا باسترناك العظيم، ولم يبقَ منه في الذهن إلا مشاهد من دكتور زيفاجو…
وقرأنا فولكنر… موباسان… جويس… ونجيب… فلم يبقَ منهم إلا نتف،
نتف مثل بقايا العطر الجيد في الذاكرة.
وقرأنا على المك، وكتاباته لها رائحة المطر على حيطان بيوت أم درمان القديمة…
أيام سينما برامبل، وأيام “الأسيد”، وجكسا، وعثمان حسين، و”الكارو”،
واللبن وباعته يطرقون الأبواب الخشب، وقهوة اللغا، والجلابية السكروتة…
وعلى المك ما يبقى من رائحته هو جمل من قصصه:
و…. دا خِيتِي…. دا خِيتِي
يقولها أحدهم في الرواية حين يلمح فتاته وهي تعبر،
و”الخيت” هو نغمة من إيقاع “الظّار” (ينزل) فيه من هو من أهله.
وصاحب الكنتين في آخر الزقاق يقول للشباب وهو يغرف لهم الفول:
زولكم دا ربنا مرقو ساكت… الحب دا كعب تب.
وفي حوار الهاتف نصف الليل مع صاحبته تقول له:
الليلة في نشرة تمانية… ماتوا خمسة نسوان وراجلين… النسوان مسكينات… ضعيفات.
ونشرة تمانية كانت ترسم كيف أن السودان كله “حلة” واحدة،
وهي النشرة الوحيدة في إذاعات الدنيا التي تذيع في مساء كل يوم أسماء من رحلوا ذلك اليوم،
ويسمعها السودان كله.
كل شيء في السودان ظل سودانيًّا…
حتى جاء من بدؤوا “تمدين” السودان بإلغاء العمد… والجامعة الإسلامية و…
(2)
“وإنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”،
ومن مكارم الأخلاق: النظام، لأن عكسه هو الفوضى.
وأشهر ما يصنعه المجتمع المنظم هو حكاية سرقة قطار لندن.
وفي الستينات، اللصوص يسرقون قطارًا يحمل مبلغًا ضخمًا،
سرقوا عربات القطار ذاتها…
فالرجال هناك، كل ما فعلوه هو أنهم مدّوا خطًا فرعيًّا لقضيب القطار،
خطٌّ يقود القطار إلى مخزن ضخم هناك.
والأمر نجح، ولسنوات عجز الجميع عن كشف اللصوص.
ويومًا، رجل يستأجر بيتًا ويدفع كاش،
وهذا ليس معتادًا، وأوراق العملة جديدة كلها.
وصاحبة البيت تتشكك،
والشرطة تقفز إلى ملفاتها، فالملفات هذه فيها أرقام أوراق العملة التي سُرقت قبل سنوات،
والباقي معروف…
لكن السودان… مبهول،
وإلى درجة أنه، الآن، في أيام الدعم السريع وأيام المتعاونين،
يجد الناس من يتعامل مع أي جهة ضد الجيش، وضد دين محمد،
دون أن يجد كفًّا تلطمه.
من أين ترى يجب أن نبدأ؟
اليوم أو غدًا، تنطلق المعركة النهائية في الفاشر…
اللهم… اللهم…