عبد العزيز محمد داؤود .. عبقري الأغنية السودانية

في ذكرى رحيل الفنان العجيب والظريف

عبد العزيز محمد داؤود .. عبقري الأغنية السودانية

بقلم: صلاح الباشا

كان ذلك الرحيل المرير لأشهر الظرفاء في عالم الفن والطرب السوداني الأصيل. بل أشهر الظرفاء في كل الحياة الإجتماعية السودانية على الإطلاق. كان ذلك الرحيل المرير للراحل المقيم الفنان خفيف الظل عبدالعزيز محمد داؤود في أمسية السبت الحزين في الرابع من شهر أغسطس من عام1984م. كانت السماء في ذلك المساء الحزين تكتنز بالسحب. نعم. مات أبوداؤود في عز الخريف بمستشفى الخرطوم بحري التي كان يسكن فيها في الدناقلة شمال، وحينذاك هطلت زخّات مطر خفيف ولعل ذلك السحاب أبى إلا أن يرطِّب ثراهُ بحبات المطر الحزين تلطيفاً لسخونة أجواء الخرطوم في بداية أغسطس.

 

مرت سريعاً تلك السنوات، لكننا لازلنا نحس برحيق نكات أبوداؤود قبل أدائه لفاصله الغنائي دائما حيث كانت تتمدد القفشات الرائعات لتغطي كل سماء الوطن. إذن. أن الراحل المقيم أبوداؤود لا يحتاج لأن نسرد للناس طبيعته وسرعة بديهته، فذلك أمر واضح ومفهوم ومعلوم ولا يحتاج كثير إضافة، وفنان في مثل قامة عبدالعزيز محمد داؤود لا يحتاج أيضاً لكثيف ضوء بقدر ما نحتاج نحن دائماً ألا يفارقنا صوته حين يخاطب خيالاتنا:
مساء الخير .. إنت يا الأمير
يا الحُبك سكن الضمير
يا ملاك… هي .. والله
غيرك .. ما لي سمير.
يدندن بها أبوداؤود وهو لا يزال (ينقر) بأنامله على علبة الكبريت أبومفتاح، تلك العلبة التي لا تفارق جيبه مطلقاً، فهي – كما يقول – يستطيع أن يسد بها مكان أوركسترا كاملة إذا إضطرته الظروف للغناء ذات لحظة بدون فرقة موسيقية لأي سبب من الأسباب، فلقد عاشت معه علبة الكبريت تلك أحلى السنوات، وله معها أجمل الذكريات، ليس ذلك فحسب، بل لأهل السودان كلهم أجمل الذكريات مع تلك الكبريتة التي لا زالت هي أيضاً تفتقد أنامل أبوداؤود ونقراته اللطيفة عليها (عليه الرحمة).
يقول الراحل المقيم والصديق الصدوق لأبوداؤود وهو البروفيسور علي المك حين يحكي لنا في ذلك الكتيب الراقي الذي أصدره عقب وفاة حبيبه أبوداؤود حيث يذكر لنا علي المك بقلمه المتمكن الظريف، كيف تلقى خبر صدمة هبوط قلب عبدالعزيز قبل يوم من وفاته، فيقول علي المك – طيب الله ثراه – بأسلوبه الممتع الراقي الجاذب بحق:
(في يوم الجمعة التي بدأت فيها رحلة الموت، كنت مدعواً في بيت أحد الجيران، والدعوة كانت – غداء – والنهار حار ومضجر، لا أعلم، تباطأت شيئاً، ولكني ذهبتُ علي كل حال، وجدت خلقاً كثيرين، كان أحد المغنين، ودأبه كان تقليد أداء عبد العزيز، ولكنه بون شاسع، قال يبدي تظرفاً أمقت صنوفه: صاحبك صوته خفّ، قلت بحدة: صاحبي منو؟ قال: عبدالعزيز داؤود، قلت ساخراً: ماهو إنت موجود!!. ضحك القوم ضحكاُ كثيراً، تشاءمت، أكلت في عجلة، عدت للبيت، وحدي كنت، وفي التلفزيون وجدت ألواناً من مسابقات الأولمبياد في لوس أنجلوس، لم تفد حالتي كثيراً، أعرف الإكتئاب النفسي يقيناً، كنت لا أعلم من أمره، الأكتئاب، كبير شيء، ولكن الأزمنة صعبة ، والتمرس بمقابلة المكاذبين يبدو أول أمرهم، براءة الأطفال، هدّ من صلابة النفس ونقائها كثيراً، عرفتُ الإكتئاب إذن، يقيناً والجمعة 3 أغسطس كان يومه.
وحين بدأت شمس النهار بالإخفاق، أبصره حيث كنت في البرندة، سمعت حركة أقدام، ثمة من يصفق، نهضت من موقعي، فتحت الباب، أمامي كان عثمان محمد داؤود، أحييه في حماسة، ثوان وتخال دهوراً لعله كان يود يختزل مجاملات التحية الطويلات ليقول لي شيئاً أهم كثيراً من مجاملات السلام، توقف السلام، قال: صاحبك جاء من الأبيض عيان جداً،
تركت التلفزيون يحفل بالعدو والملاكمه والسباحة وإنطلقت معه نبحث عن طبيب، وعدنا طبيب صديق يتبعنا ذهبنا من بيتنا في أم درمان إلى الخرطوم بحري، ما أنكرنا حي الدناقلة، كان بي حفياً منذ أن جعلته وطن الوجدان يكون في دار عبد العزيز. ذلك كان في أخريات الخمسين، جسر مطمئن على الخور يفضي إلي زقاق فيه دار عبد العزيز، لا أعلم لماذا تفرست في معالم الجسر الصغير في ذاك الموعد من ذاك اليوم ولأول مرة ‍فوقه حصى، وعليه مع الحصى تراب، وكان يضايق السيارة إنه في حافتي الجسر تكون دائماً مجموعة صبيان، أقدامهم تزيد ضيق الجسر ضيقاً تخال أحيانا أن أقدامهم تدعو إطارات السيارات أن تدهسها. تارة ينهضون من مجالسهم مبرمين، وأحياناً بذوق حسن ، في ذاك الموعد من ذاك اليوم لا صبيان ولا أقدام صبيان، ليس هناك من شيء علي الجسر إلا الحصى وإلا التراب، صرنا إلى البيت، ثوان وتخال دهوراً، بعد الباب المضياف، وجه عبد العزيز، كان جالسا على كرسي، أسند ظهره على وسادات، تعين على قليل من راحة يحتاجها قلب متعب مجهد، مرهف، أنفاسه تجعل من جلابيته شراعاً تعبث به الريح وتنفخ فيه، لا تسعفه الأنفاس المبهورات، لم يتعود هذا الإنسان الرائع أن يصمت، هش لي وبش، وضعت أكتئابي بين يديه، دأبي منذ عرفته، يعرف ما يضايقني قبل ان أبوح به، نظر إليّ، ضحك ضحكاً صافياً هزم به الأنفاس المبهورات، قال: إنت لسع محافظ علي جلابيتي الجبتها ليك؟ ضحكتُ بصفاء جعل الإكتئاب المر يتساقط من خيوط الجلابية، يغادر نفسي، جلست أنظر إليه، تذكرت لحظتها زماناً في الستين وكنت أعد نفسي للسفر للدراسة في أمريكا، جاءني عبدالعزيز وأهداني جلابية زرقاء اللون وفصلتها وحملتها معي، وحين عدت إلى الوطن سألني؟ ماذا أحضرت لي معك، إن شاء الله جلابيتي رجعت معاك؟. ضحكت، قلت: والله يا أستاذ كل الجبتو معاي أسطوانات وفونوغراف، قال: بس؟ مرحب بالغاب .. وجاب). (إنتهي جانب من حديث علي المك وسنعود له لاحقاً).
كان أبوداؤود رجلاً معطافاً .. يحب فعل الخير، بل ويموت فيه كما يقول المثل، يفعله دون رياء، يفعله كما يقول أصحابه دون أن يدري المعطوف عليه أنه قد أتته خدمة لوجه الله من أبوداؤود. وذلك ديدن العظماء من الناس، فالبعض يعتقد – من فرط الفقر الذي ضرب أهل السودان مؤخراً – أن فعل الخير والصدقات لا تكتمل إلا حيث يتواجد المال. صحيح أن المال السائل هو (حلال المشاكل) الحياتية المعقدة، لكن هنالك أشياء لا يستطيع مال الدنيا حلها، لأن حلها هو ربما يكون في فعل صغير بسيط يزيل الهم ويذيب الفوارق ويقرب القلوب من بعضها وهو أكبر صدقة وأكثر تأثيراً وأطول أثراً وصدى من المال وهو الذي ينطبق عليه قول المصطفى الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام: (تبسُّمك في وجه أخيك صدقة)
يا سبحان الله، فلك أن تتخيل مدى العمق والأثر الذي تتركه البسمة الخالصة لدى الإنسان. لذلك نقول أن أبودؤواد كان هو المتصدق كثيراً بماله وبتبسمه في وجه الناس. وهو محظوظ أن عرفه الناس بهذه الخصال.
كان أبوداؤود حين يغني فإنه يغني لنفسه أولاً قبل أن يغني للآخرين، كان حين يمدح أو يرتل القرآن تجده يذوب وجداً ورهافة في قدرة الخالق جل وعلا.. كان عبد العزيز كل هذا وذاك. لذلك تظل ذكراه دائماً خالدة وجميلة في نفوس أبناء شعبه. وفي الواقع لقد ترك أناس كثر أجمل الذكريات في خواطر الشعوب وأيضاً في سجلات التاريخ الإجتماعي، وبنفس المستوى نجد العكس تماماً. حيث يظل يرحل أناس آخرين ولكنهم لا يتركون أثراً إيجابياً خلفهم يستطيع الناس في مجتمعهم أن يذكرونهم به، وتلك الأخيرة أصبح بعض الناس كثير قيمة، لكنها – على أية حال- ضئيلة الحدوث في مجتمع أهل السودان، فالغالب الأعم عند أهل السودان هو (تبسمك في وجه أخيك صدقة). وليذهب عابسو الوجوه إلى مصيرهم غير مأسوف عليهم. ونواصل حديث الذكرى.