حكاية راشدة .. العلمانيون يمتنعون !!

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
حكاية راشدة .. العلمانيون يمتنعون !!
❊ أصبحت الأندية والمنتديات المحايدة في بلادنا قليلة، بحيث أنها لا تُعد حتى على أصابع اليد الواحدة بل هي أدني فالقبلية المنتنة ضربت بأطنابها وسدّت بكلكلها الآفاق والقبليات في بلادنا كما تعلمون أو لا تعلمون ظلمات بعضها فوق بعض قبلية عرقية و قبلية مهنية و قبلية أجنبية الهوى والمصالح بادعاء التمييز الأخرق الواقع تحت وطأة الافتتان بالفرنجة الافتتان المفضي إلى التقليد الأعمى والضلالات المفضية إلى النار والعياذ بالله، وإن حدثتك نفسك يوماً بزيارة إحدى هذه الأندية أو المنتديات أو الملتقيات عندما كان السودان على الخارطة وكانت المنتديات بإيجابياتها وسلبياتها (على قفا من يشيل) وإذا أفلتَّ من عقاب بطاقة العضوية والدفع المقدم .. ووجدت لسبب ما مقعداً قصيّاً فعليك (أن تعمل حسابك) من كل طرفة عابرة أو تعبير عفوي فإنه ربما جرح بني نزار أو بني تغلب أو بني كلب أو بني جارح من العرب المستعربة أو الأفارقة الأقحاح.
فإذا أضفت إلى ذلك قبائل السياسة والكورة التي صارت تعبّر للأسف عن شماتتها في مبارياتنا القومية (بعناقريب) الجنائز الرامزة لأدركت كم صار هذا السودان الماهل (أبو مليون ميل مربع إلا) ضيقاً مثل (قد الإبرة) أو أدنى من ذلك قليلاً قليلاً قليلاً حتي التلاشي.
❊ ولأن المكان المسامح قد مات، فقد مات الزمان المعافي، وصارت أمسيات السودانيين صامتة، ذلك الصمت الأخرس أمام المسلسل اليومي الرتيب أو ثرثرة اللا هوادة أمام المهاتفات المجانية ليلاً وهي ثرثرة لها (كلف) وثمن باهظ وولع بتسويد كل أبيض وتبييض كل أسود، وهذا وذاك قبيح فالأشياء عندنا لا تترك على طبيعتها حين تنتقد، وقديماً قال المتنبي في فلسفة اللوم:
“وما كره الناس البياض لأنه قبيحُ ولكن أحسنوا الشّعر فاحمهْ”
ولذلك فإنني أشك في أغلب نتائج مؤتمراتنا وورش عملنا وتوصياتنا لأننا ندخل عليها برأي مسبق وروشتة مستترة قبل بداية الفحص و قبل معرفة الداء، وحتي المثقفين منا أذكياء في الكليات ولكنهم يمارسون الرسوم بكفاءة في التفاصيل.
وهل هنالك سادتي دليل أمضى من هذا الفشل العام الذي نشاهده رغم وجود الكثير من الإنجازات التي كنّا نأمل أن تشُدّنا إلى علٍ فشددناها نحن للأسفل لأن نفسيتنا المتمرسة على (جلدِ الذات) أبت إلا أن ترى العيب المخبوء أو المتخيل الطارد لكل خيارات الفلاح والفارق بطبع كبير ما بين الجلد الذاتي والنقد الذاتي.
❊ إن هذا الضيق في الانتماء والتزمّت البغيض أفضى إلى استبداد عام لا تمارسه السلطة وحدها كما ندعي، بل يمارسه الجميع؛ فكان النتاج هذه الغلالة السوداء من الشح التي تسد على الأنفس طلاقتها وعلى القلوب انطلاقها، هذه الغلالة السوداء التي تحولت بوعي من إعدئنا وبدون وعي منا وإنتباه إلى حرب ضروس قضت على الأخضر واليابس وسماها البغاة الأغبياء تدمير (دولة 56) التي جعلت منهم إناساً يطلقون صوت المتاجرة ويفكون الأبجدية وتفكك السلاح ويا له من جزاء.
❊ تذكرت كل هذا لأنني تذكرت أحلام التخرج ونحن ثلة من الأصدقاء في بدايةِ الثمانينيات .. لا يضيق بنا زمان ولا مكان، فقد كان السودان يومها فسيحاً ومعافى ويحتمل الجميع، وقد كنا حين نضيق بنقاش وحوار الكليات والمفاهيم الكبرى نتأسى بالذي أسميناه إتفاقاً (بعبقرية المواقف الصغيرة)، تلك الأقاصيص والحكايات الحقيقية التي نطلق لها العنان بالخيال اليقيني والتفسير والتأويل والإضافة والزيادة والتزيُّد أحياناً فتفيض فنبلغ بها المفاهيم الكبرى والكليات تلك الّتي هربنا منها أولاً حين لجأنا لهذه الحكايات والمواقف الصغيرة العُذاب الباهيات، ولأنَّ الإيقاف القسري عن الكتابة بعد اغتيال الكثير من الصحف والمنابر لأسباب معقولة وغير معقولة، قد أعطاني فسحة من الفراغ، أتاحت لي بعض الإطلاع، وثانياً وبعض البحث في (الأنابيش) واستعادة الكثير من الفرقاء والرفاق والأصدقاء فأنا (موسوس) بأهمية الأوراق، مهما تكاثفت وسدت علي أفق المكتب فلي ظن قديم بأنها دائماً جواهر، حتى إذا ما يممت وجهي نحوها وجدت أغلبها -لا كلّها- مجرد أحضان من الفوائل والفواتير القديمة والخطابات، ومذكرات من الآخرين وهي في غالبها لا قيمة لها ولكن دائماً ما بين هذا الكم الهائل من (القراطيس) دائماً ما تطل ورقة مفيدة أو خطيره.. فقد وجدت قبل أيام ورقة كتبت عليها مدخلاً لمناقشة هذا الذي سميناه بعبقرية المواقف الصغيرة مختلسة من ذلك الزمن الجميل.
❊ كان المدخل الأول فيها موقف إنساني صغير كبير وياله من موقف! أنه موقف، للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد لحظ النبيّ الكريم حزن أحد صحابته الشباب ورأى انكساره وأدمعه التي تتناثر قهراً وطوعاً مع حرصه على سترها دبر كل صلاة فسأل صحابته عن حزن صاحبه الفتى فقالوا له إن (بريرة) زوجته وصنو روحه قد راجعته في الطلاق فطلقها، ومنذ أن فعل فهو في هذه الحال البائس.
وبلا مقدمات ذهب إليها المصطفى بنفسه، لم يستدعها، بل ذهب إليها وهو وحيد زمانه في الرحمة والهيبة والحكم والحكمة والنبوءة، ذهب إليها في أمر دارج ويومي تناقشه المجلات الاجتماعية وصحف المعتاد وشاشات الإعلام في باب أسألوني أو أريد حلاًّ ولا يحمل همّه عضو مجلس محلية أو عمدة قرية مجهولة وكان الشهود يومها ويا لهم من شهود صاحبي المصطفى صل الله عليه وسلم أبوبكر الصديق وعمر الفاروق.
المصطفى الذي تتآمر عليه رؤوس الكفر الداخلي في قريش وطلائع الحقد الخارجي من الفرس والروم يريدون أن يطفئ نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. المصطفى المعصوم الذي يتهيأ لأمر السماء المهيب بالقرآن وأمر الحق الذي يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، يجد وقتاً مباركاً ليمسح دمعة محب عفيف فارقته زوجته فأسودت في أعينه الدنيا وضاقت عليه النفس.
خاطبها المصطفى مراجعاً في لطف ورجاء أن تعود إلى زوجها الحزين. فسألته الصبية المطلقة التي تعرف حقوقها الشخصية وحقوقها الدستورية معرفة واثقة (أجئت آمراً أم شافعاً (أي شفيعاً) أو كما يقول أهل السودان (واسطة خير) يا رسول الله؟). فقال المصطفى في أدب ويسر ومعرفة: (لقد جئت شافعاً). قالت فإن جئت شافعاً لا بأمر من السماء (فلا أعود). لم يعنفها الرسول الكريم ولم يتهمها بمعصية الله ولرسوله ولم يغلظ عليها. فقط عاد وفي قلبه حزن كثيف يضاف إلى أحزانه الكبار.
عزيزي القارئ، لقد دار النقاش في مجلسنا حول هذا الاهتمام النبوي الرفيق الرفيع بهذا الإحساس الإنساني العميق، مما يعد في زماننا هذا، في إطار خصوص الخاص، فصارت بالرعاية النبوية يومها هماً عاماً وصارت قضية أممية يذهب إليها الرسول والحاكم المعصوم على جلال قدره. ودار النقاش حول (الحرية) بعد أن عرفت الصبية أصول الدستور حين قالت: (آمر أم شافع) ومن بعد اختارت قناعتها.
وحتى تعم الفائدة أترك لك عزيزي القارئ حين تجد لك مساحة أو منتدى لا تعتقله القبلية ولا التزمت ولا الخوف في أن تكمل بقية المعاني مع بريرة وسيد الأبرار.
❊ حاشية:
وفي مقالٍ أخر سوف أسرد عليكم ما حكاه السادة المتصوفة والزهاد والصالحين من أحباب المصطفى في أمر (بريرة) بعد أن ردت شافعة الرسول الكريم، وقد رأوا فيه تطاولاً وقلة معرفة، مع أن أحد الفقهاء المعاصرين أحسب أنه الشيخ محمد الغزالي قال معلقاً لم أعرف كيف أوزع الإعجاب هل لموقف المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب القلب الحاني على صحابته حتى في أمورهم الخاصة أم لـ (بريرة) الفقيهة الشابة التي تمسكت بحقها الدستوري حتى وإن كان الشفيع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وبمثل هذه القيم ما بين الراعي والرعية بلغ الإسلام الآفاق وصنع الإمبراطوريات وبلغ بلوغ الليل والنهار.