عبدالعزيز محمد داؤود .. عبقري الأغنية السودانية (2)

في ذكري رحيل الفنان خفيف الظل وعالي التطريب
عبدالعزيز محمد داؤود .. عبقري الأغنية السودانية (2)
بقلم: صلاح الباشا
كنت ذات مساء. والدعوة كانت مفتوحة للمعلمين في ذلك الزمان بدار الإتحاد الإشتراكي (العملاق) كما يصفه دائماً (أب عاج) في خطبه العديدات. كنت حاضراً في شتاء العام 1973م تحديداً في ليلة فنية ثقافية بمناسبة إنتهاء فعاليات عيد العلم في تلك الدار، كنا طلاباً بالمساء بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وكانت مهنة التدريس الراقية هي الملاذ الذي لذنا به كي نقدم خدمة جميلة لوطننا ولكي نقوم بتأمين مصاريف السكن والإعاشة والدراسة الجامعية (نحن أبناء الأقاليم)، فكانت أجمل أربع سنوات من عمري عملت فيها معلماً في عدة مدارس بأم درمان، وتأتي بيت المال الإبتدائية في مقدمتها، فقد كنا شلة طلاب ومعلمين ظريفة ومتوثبة، في عز شبابنا، وكان السودان عملاقاً ومتوثباً أيضاً، كان الإقتصاد متوازناً بالقدر الذي كنا نستمتع فيه بالراتب الذي لا يتجاوز الثمانية والعشرين جنيهاً في الشهر فقط. كنا نستمتع بكل مباهج التسلية والترفيه، نشاهد مباريات هلال جكسا وعلي قاقارين والدحيش وفوزي وزغبير من المساطب الجانبية، ونلتقي بأهداف كمال عبد الوهاب وبشارة وبشري والفاضل سانتو وحموري.
كنا بتلك الماهية الكبيرة (٢٨ جنيه) نرسل للوالدين في بركات بودمدني ما يعين علي مشاكل الحياة المتواضعة، كما لا ننسى ليلاً متابعة كل أفلام سعاد حسني (أخت القمر) في السينمات وفي مقدمتها (خلي بالك من زوزو) في كوليزيوم الخرطوم وسينما البلو نايل بجوار داخليات البركس، حيث لم يكن للشماشة وجودا بعد في قلب العاصمة. فكانت تلك الأمسية بدار الإتحاد الإشتراكي (وزارة الخارجية حاليا)
وأب عاج (قاعد) أمام الخلق. ولا زلت أذكر طاقم من الوزراء والمسوؤلين وهم يصطفون في مقاعدهم، منهم من كان يرتدي الزي القومي كدكتور منصور خالد وزير الخارجية وأحمد عبدالحليم وزير الإعلام، ومنهم من كان يرتدي السفاري كالمرحوم جعفر بخيت ومنهم من إكتفى بالقميص والبنطال كزين العابدين وأبو القاسم محمد إبراهيم، غير ان اللواء الباقر وقد كان النائب الأول للرئيس يرتدي (الفل سوت). كان المطربون الذين يؤدون الحفل هم المعلمون الفنانون لأن المناسبة كانت عيد التعليم، فالمناسبة هي تعليمية بحتة، ويحييها الفنانون المعلمون. كان هناك محمد ميرغني، عبدالقادر سالم، صديق عباس، علي ميرغني، أبو داؤد الذي كان قد إنضم إلي قسم المسرح المدرسي بوزارة التربية وقتذاك.
صعد عبد العزيز على خشبة المسرح والأوركسترا تستعد للوصلة، هنا طلب الرئيس نميري (أب عاج) من عبد العزيز أن يقول نكتة قبل الغناء، ضحك عبدالعزيز و(مسح بالمنديل على صلعة رأسه) ثم قال حاضر ياريس فقال: كان في واحد قلبو رهيف جداً، عندو حنية أكثر من اللزوم، يبكي لأي سبب يؤثر عليه، يحزن إذا شاهد أحد أقربائه أو أصحابه مريضاً، وفي مرة تم نقله للعمل في منطقة بعيدة خارج العاصمة، فودع أهله وسافر ، وكان يزورهم في الأعياد دائماً مثل عادة السودانيين، وأثناء غيابه بعيداً عن أهله، توفي والده، فإحتار الناس كيف يوصلون له هذا الخبر، وكانوا يخافون عليه من أن تحدث له كارثة إذا سمع بالوفاة، وبدأ الناس يتشاورون خلال أيام المأتم، فإتفقوا علي أن يرسلوا له تلغراف بالعودة فوراً إلى الخرطوم بقطار السبت القادم مثلاً، وإتفقوا أيضاً أن يخبروه في محطة السكة الحديد بعد وصوله، ولكن كيفية توصيل الخبر كانت أيضاً مشكلة قائمة، فرصدوا جائزة قدرها خمسة جنيهات لمن يوصل له خبر الوفاة دون أن يتأثر أو تحدث له صدمة مميتة بمحطة السكة الحديد. وهنا كل الناس قد (زاغوا) إلا شخص واحد كان خفيف الدم فإلتزم بتوصيل خبر الوفاة له في المحطة وبعدها يقبض الحافز، وفعلاً ذهب في إنتظاره، وفور نزوله من القطار قال له: جاييي مالك من عملك إن شاء الله خير؟ فرد عليه: والله ناس البيت ديل رسلوا لي إشارة عاجلة (تلغراف) للحضور وأنا الآن في قلق شديد على الحاصل، وهنا سأله: إنت آخر مرة شفت فيها أبوك متين؟ فرد عليه: في عيد الضحية الماضي، فقال له: تاني كان شفتو .. أحلق دقني دي!.
ففهم الشاب الرسالة ولم يتأثر. وهنا إنفجر النميري من الضحك المتواصل وهو يدير وجهه ناحية جعفر بخيت. الله يرحمك يا أبوداؤد.
وعبد العزيز في فن الغناء قد طرق معظم ألوانه، فقد تغنى لحقيبة الفن بأغاني ظلت مرتبطة به إرتباطاً وثيقاً حتى ظن الناس أنها صنعت خصيصاً له وليست بأغاني حقيبة، وقد كان يؤديها بدرجة عالية من التطريب: مثل، زهرة الروض الظليل، غصن الرياض المايل، فلق الصباح، ياليل صباحك مالو، من أول نظرة، لي زمان بنادي أنا للخديدو نادي.
تغنى عبد العزيز لعدة شعراء، تغنى وكان ذلك الراحل المقيم الموسيقار برعي محمد دفع الله يخرج له الألحان الرائعات بتلك الموسيقى الجميلة التي تستنشق فيها عبير أنغام برعي، وبرعي دفع الله كانت له طريقته الخاصة في تأليف اللحن، وقد إرتبط عبد العزيز مع برعي إرتباطاً فنياً وإبداعياً منذ منتصف الخمسينيات وحتي وفاته، مثلما إرتبط به بشير عباس طويلاً أيضا قبل إلتقائه بالبلابل.
تغنى عبد العزيز بالروائع الخالدات: هل أنت معي، أنت لي، أجراس المعبد، تلك كانت بفصيح اللغة وكيف ننسى في مقدمة كل ذلك تلك المشهورة عربياً ويؤديها عدة مطربين عرب بطريقتهم، إنها عروس الروض يا ذات الجناح ياحمامة، وكيف ننسى (من عمايل الحب) وأغنية من زمان لطالب الطب وقتها الزين عباس عمارة. ثم تلك الخفيفة التي طلبها عبد العزيز بواسطة برعي دفع الله من شاعرها الأستاذ فضل الله محمد وهي (في حب يا أخوانا أكتر من كده؟ وفي كلمة غير أحبك أرددا؟). برغم أن الفنان محمد مسكين سبق أن تغنى بها مسبقا، غير أن برعي أقنع الطرفين فضل الله ومسكين ونجح في ذلك فسجلها أبوداؤود للإذاعة.
أما الغناء الدارجي فكانت له درر غوالي: مساء الخير، أنا من شجوني باكيات عيوني. ثم تلك الصامدة الجميلة (نعيم الدنيا) التي يغرد بها المبدع علي اللحو أيضا.
كان أبوداؤود يجيد غناء التواشيح، بمثل إجادته للمدائح النبوية والترانيم الدينية التي تأتينا من وقت لآخر في صباحات السودان التي كانت مشرقة من راديو أم درمان. وهل ننسى تلك الرمية التراثية التي كم كان يبتدر بها الغناء في الأفراح:
الطابق البوخة
قام نداه يهتف..
نام من الدوخة
إيدو عاقباه..
جدلة مملوخة
لمعالق الجوف..
موسو مجلوخة
ياناس الله لي.
أما كيف كانت تلك العلاقة التي أصبحت كالتوأمة بين البروفيسور الراحل علي المك وبين عبدالعزيز، فلنترك علي المك بنفسه يحكيها لنا برشاقة قلمه العجيب كما ذكرنا حين كتب في كتابه بعد رحيل أبوداؤود:
(عرفت عبد العزيز داؤود أول مرة عام 1958م وأنا طالب بالجامعة، ذهبنا إلى داره في الدناقلة شمال، عبد الماجد بشير الأحمدي (السفير فيما بعد) وأنا، كان الوقت عصراً، وفي إتحاد طلاب جامعة الخرطوم حفل في ذات المساء، وللرجل سمعة مدوية في التعليق وعدم الظهور في الموعد المضروب (أي شرّار)، قال الأحمدي أنه يثق في بلدياته عبد العزيز وفي كلمته، الأحمدي من ناس بربر، وكان بمدينته يفاخر، كنت في شك من الأمر وكبير، أطل عبد العزيز من الباب، رحب بنا، قال: سأحضر لحفل الجامعة، وبر بوعده وغنى، ومنذ ذاك المساء توطدت صلتي به، وصادقته بضعاً وعشرين سنة، لم نكن نفترق أثناءها إلا قليلاً، عرفت زوجته وأبناءه وأهله، وكأني بعض أهله، وحين ماتت – فٌلة – وهي كلبة الأسرة، حزنت عليها زوجته حزناً شديداً، خاصة أن فلة قد ألفت دار عبد العزيز جرواً صغيراً لحين أن أسنت وماتت، وكان عبد العزيز قد أحس بحزن زوجته فناداها وقد إستبدت به روح الدعابة فقال لها: (يافوزية شدي حيلك أنا شايف الجيران جايين يعزوك). إنتهى حديث علي المك.
ومن دعابات عبد العزيز أن قابلته ذات مرة وهو خارج من الإذاعة إمرأتان وقد كانتا من المعجبات بفنه جداً وهو يعرف إحداهما دون أن يتذكر إسمها، فأقبلت نحوه وحيته وقالت له أنا ما دار النعيم. نسيتني وللا شنو يا عبد العزيز؟ وكانت الأخرى ضخمة الجسم وتأخرت قليلاً إلي أن وصلت عبد العزيز وسلمت عليه، وأرادت دار النعيم أن تعرف أبوداؤود على صاحبتها، فأسرع عبدالعزيز قائلاً: عرفتها .. دي دار الرياضة.
أبوداؤود كان زعيم المجاملات، لا يكسف احداً، يلبي طلب أصغر طفل عندما يطلب منه نكتة أو مزحة أو حتى اغنية في أي موقع كان هو. وذات مرة كان المريخاب يقيمون حفل تأبين للقطب المريخي الكبير الفنان (علي أبو الجود)، وبالطبع كان علي المك على رأس هؤلاء. فهو كما نعرف مريخابي على السكين، فهو أم درماني ومريخابي الإنتماء والوجدان وله في المريخيات باع طويل، فقد كان معه ذات مساء في عربته عبد العزيز، فقال له نمشي نادي المريخ، فاليوم حفل تأبين لعلي أبو الجود، فوافق عبد العزيز، ليس للغناء، ولكن متفرجاً على الحفل، وكان النادي يعج بكواكب فن غناء الحقيبة، ولكن عندما رأي الجمهور جلوس أبوداؤود مع الحاضرين فقد طلبوا منه المشاركة رغم عدم إستعداده الفني من حيث الأوركسترا، فلم يرفض، بل نهض وصعد على المسرح وطلب تزويده (بالرق) وببعض كورس الشيالين، ففعلوا، فإبتدر الغناء بتلك الرمية:
الجرحو نوسر بي
غوّر في الضمير..
فوق قلبي زاد الكي
ياناس الله لي.
ثم بدأ يشدو برائعة كرومة وأبو صلاح والجمهور يكاد ينفلت من الفرحة والهياج، فكان ظهور تلك الأغنية على طريقة أبوداؤد:
يازهرة طيبك جاني ليل
أقلق راحتي..
وحار بي الدليل
زاد وجدي ..
نوم عيني أصبح قليل
لو مرّ نسيمك
على ألف ميل
تخلي العالم طربا يميل
زاد وجدي ..
ونوم عيني أصبح قليل
فخرجت من وقتذاك (زهرة الروض الظليل) من سباتها العميق لتبدأ تنتشر من جديد مع صوت أبوداؤود الذي كم حلق بها كثيراً بخيالاتنا، وخيال أهل السودان المحب للفن والطرب الأصيل لعقود طويلة من الزمان. ولأننا في حضرة ذكرى أعظم مبدعينا أبو داؤود وعلي المك، فإنني أختتم بكلمات الأخير، كيف يصف لنا الرحيل، رحيل عبد العزيز. وذلك في الحلقة الثالثة والأخيرة إن شاء الله.