كجراي .. شاعر الإنسانية والجمال

كجراي .. شاعر الإنسانية والجمال

بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظ

علي كثرة أفذاذ شعراء السودان وشهرتهم داخل وخارج السودان ظل محمد عثمان كجراي أحد رموز الشعر والشعراء السودانيين لما امتزج في حياته بالخاص والعام في أعلى مدارج التقلبات الصادمة لشخصه وذلك وهو صغير في السن حتي وفاته الفاجعة في أغسطس 2003 ومرورا بكم من أحداث عاصرها وسكب فيها زبدة الحشاشة الشعرية حتي وصل لمرحلة اطلاق لقب (شاعر القضايا الكبرى) عليه.

الميلاد والنشأة

 

بالقضارف وفي العام 1929 كان ميلاده الذي ملأ دنيا الشعر السوداني شعرا أخاذا مموسقا وذلك داخل أسرة كانت ترغب وبشدة في أن يصبح ابنها فقيها دينيا فكانت تهيئته منذ الصغر لتلك الأمنية، فدفعت به نحو الخلوة أولا لحفظ القرآن الكريم فأظهر الطفل نبوغا في ذلك بحفظه لإجزاء من القرآن الكريم وذلك قبل إلتحاقه بالمدارس النظامية بالمدرسة الأولية بالقضارف كان اجتيازه لها السبب الرئيسي في إلتحاقه بالمعهد العلمي بأمدرمان مستعدا لثماني سنوات من عمره يقضيها فيه للتخرج فقيها أو مساعدا قضائيا في المحاكم الشرعية أو معلما لمادتي اللغة العربية أو التربية الإسلامية بالمدارس فكانت أياما خلدها في قصيدة (حشائش النار) وهي من أول القصائد التي نشرها في بداية الخمسينيات وتحديدا في العام 1953 بصحيفة الصراحة وهي من ضمن القصائد التي لم يطلع عليها الناس وكذلك لم يضمنها في أي من دواوينه الأربعة.
داخل ردهات المعهد العلمي بأمدرمان تتلمذ على يد فطاحلة النحو والصرف وعلوم الدين وهم الشيخ محمد أحمد أبو دقن والشيخ هاشم أبو القاسم والشيخ أحمد الطاهر والشيخ عبد الرحمن الدباغ.

 

انقطاع الدراسة بالمعهد العلمي بأمدرمان

 

اختط القدر له مسارا جديدا وذلك حين وصل للسنة الرابعة بالمعهد إذ كانت حوجة الأسرة له أكبر من اتصال تحصيله الأكاديمي، فعاد للقضارف وأفتتح محلا لبيع المستهلكات المنزلية لمساعدة أهله.
ظلت حياته أسيرة لقضايا الحقوق والمواطنين وهو ما ظل فكرا وقضية ذاتية معه طوال حياته فيما بعد وهو رفض المظالم ومواجهتها وبل تنوير الآخرين بحقوقهم وقبل ذلك كتابة الشعر الصدامي ذو الطابع الثوري في وجه القبح والمظالم.

 

بدايات انطلاقته الحقيقية

 

في العام 1947 وحين اشتداد حركة المقاومة الشعبية للإستعمار البريطاني وأثناء عمله بمتجره بقرية مهلة على الحدود السودانية الإثيوبية. تضجرت السلطات الإستعمارية من تنامي حركة تهريب السلاح إلى داخل الأراضي الإثيوبية فكان أن عاقبت سكان تلك القرية بحرق مساكنهم وبالطبع كان من ضمنها متجر شاعرنا وهي الحادثة التي جعلته في إصطفاف ضد أي مظلمة كانت وذلك حتي مماته في أغسطس 2003.
داخل مأساته التي واجهها بقرية مهلة واحتراق القرية ومتجره كذلك كتب قصيدة ظلت في خاطره وذاكرته حتى وفاته وهي في أبياتها تصور آلاما ومواجع لم يمحوها الزمان:

من رحلة المجهول عدت وفي
يدي أوراقي الصفراء
ذكرى أمسيات تمردي
وحصاد عمري
حزمتان من الندم
وقصيدتان طويلتان من الألم

 

عمل كجراي بعد ذلك في وظيفة لم ترق له كثيرا وهي كاتب بسوق محاصيل القضارف وذلك لأشهر معدودات، ظل فيها في بحث دائم عن وظيفة تتفق وثقافته وتحصيله الممتاز في اللغة العربية التي درسها لسنوات أربع بالقسم الإبتدائي بالمعهد العلمي بأمدرمان حتى تقدم للإلتحاق بمعهد التربية بخت الرضا الذي بقي منذ صيف العام 1949 فيه يكابد حياة الشظف وكد التحصيل الأكاديمي حتى تخرج معلما بالمدارس الأولية في العام 1952 التي عمل بها لسنوات خمس فقط ليتم تأهيله بالصورة الفعلية ليصبح متخصصا في تدريس اللغة العربية بمعهد التربية بمدينة شندي التي إلتقى فيها بالمعلم محمد عثمان وردي المعلم القادم من شمال السودان لتلقي التدريب بها، وهي العلاقة التي جعلت محمد وردي حين بلغ مصاف الأوائل من فناني الغناء أن يذهب إليه في مايو 1962 وهو بمدينة واو بجنوب السودان، وقدم وردي وكجراي هدية الزيارة للشعب السوداني وهي أغنية (ما في داعي).
في بداياته الشعرية ذكر ذات مرة أنه نادم على كم من قصائد كتبها ولم يحتفظ بها وهو ما جعله حين أوان العام 1955 وهو معلم بمدينة كسلا أن يحرص على كتابة القصيدة بخط يده مرة ومرتين حتى لا يقع في موقع ندم كما سبق له الندم.

 

علاقاته مع الشعراء والأدباء

 

وهو باب يستحق سفرا كاملا لما فيه من وفاء صادق ومودة جعلته يكتب سبعة قصائد لأصدقائه المقربين من الشعراء والأدباء
داخل النذر اليسير من مصادفات ما وجدته في باب الوفاء لأصدقائه وجدنا دررا شعرية ووفاءات لهم وهي تحكي عظمة شخصه في احترام الشعر والشعراء وبل الاحتفاء بهم وهي خمسة قصائد وجدتها داخل أرشيفي المتهالك مع فقداني لعناوين قصيدتين للشاعرين محمد محمد علي وصلاح أحمد أبراهيم والخمسة هي: قصيدة موت الماضي لمصطفى سند وتاريخ نشرها 23 ابريل 1960 صحيفة الرأي العام. العملاق في هرمه وهي للشاعر الأديب عبد الله حامد الأمين مؤسس الندوة الأدبية الأشهر في تاريخ السودان بحي البوستة بغمدرمان وتاريخها 2 أغسطس 1962م. قصيدة رثاء للشاعر محمد المهدي المجذوب بعنوان رحيل العصافير نشرت بمجلة الدوحة القطرية عدد اكتوبر 1982م. العودة إلى الجحيم وهي للشاعر تاج السر الحسن نشرت مرتان الأولى في العام 1960م والثانية في ملحق صحيفة الصحافة الثقافي بتاريخ 18 يونيو 1981م. قصيدة الخوف والعار وهي للشاعر محمد المهدي المجذوب ومناسبتها مصالحة الصادق المهدي مع نظام مايو وتاريخها 30 اغسطس 1977م.
من أشهر قصائده التي ظلت تؤرخ لشخصه الشاعر تلك القصيدة التي أتت بعنوان إليهم مع الرأفة وأغلب الظن كانت موجهة للحزبين الكبيرين آنذاك وتاريخها 3 يوليو 1958م بصحيفة الصراحة وحين نسترجع تاريخ تلك الأيام نلحظ صراع الحزبين على السلطة وانقسامات الأعضاء بشأن المعونة الأمريكية:

دعوهم في غي الباطل غرقا
ودعونا في نعيم الحق نزهو
فالغابة ليست آمنة
والشوارع ليست خاوية

وهي القصيدة التي سقطت من دواوينه الشعرية وللأسف لم يلحظ ذلك إلا المهتمين بشعره.

 

العنكبوت أشهر قصائده

 

وهي قصيدة حفظها الناس زمانا طويلا وحتى هذه اللحظة تظل أكثر القصائد الدالة على مقاومة الشعر والأدب لتلك السياسات المضادة لتوجه الوطن والشعب والمواطن وهي في مواجهة الصلف والغطرسة الأمريكية ردا على زيارة نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جونسون للسودان في 14 مارس 1957 وفيها يقول:

جاء هذا الصفيق اللعين يحيك الشباك
ويلقي الشراك
وقد مزق الحقد امعاؤه
وأكل الجوع أحشاؤه
من طول ما خيم العنكبوت على أرضنا
ومن طول ما جثم العنكبوت علي صدرنا
عرفنا خطاك

 

كجراي نصيرا للمرأة

 

حين اشتدت الحملة الحكومية على مجلة صوت المرأة في بداية الستينيات حزم شاعرنا ومعه ثلة من أخيار الشعراء والفنانون لدعم المجلة بكتاباتهم وإقامة الحفلات الخيرية فكان منهم الفنانون التاج مصطفى ومحمد الحويج وعثمان حسين ومحمد وردي ومن جانب الشعراء كان مصطفى سند وعبد الله حامد الأمين ومحمد المهدي المجذوب وهي الفترة التي بقي فيها لأشهر أربعة بأمدرمان في ضيافة الشاعر مصطفى سند بحي الركابية وبالطبع لم يكن شاعرنا بعيد عن الكتابة للمجلة فكتب قصيدتان من جواهر الأشعار وهما (الساعين للمجد، والعودة إلى الجحيم). مع العلم بأن وزارة الاعلام وقتها كانت قد ضاقت ذرعا بالمجلة ومشاركة الشعراء المغضوب عليهم من السلطة أمثال سند والمجذوب وكجراي فأمرت بسحب ترخيص المجلة نهائيا.

 

دواوينه الشعرية

 

إتصف كجراي بتدفق شلالات القريحة الشعرية الجادة ذات اللغة الواضحة ومن ذلك فما من قضية إنسانية أو حدث مر عليه حتى كتب من حشاشة أفكاره ودماء مداده شعرا حارقا جادا غير هياب لما يمكن أن يجر عليه مساءلات السلطة أو غضبها. ومن ذلك قصيدة أشواك على الطريق التي ظهرت في أولي دواوينه الليل عبر غابة النيون بإسم آخر.
وأصدر كجراي خلال رحلة حياته الشعرية الممتدة من بداية عقد الخمسينيات وحتي رحيله دواوين شعرية من طينة الأشعار ذات القضايا الإنسانية المنضبطة تجاه أهداف محددة وهي الدعوة لقيم الخير والحق والوقوف في وجه المقابح والظلم وهي: الليل عبر غابة النيون. الصمت والرماد. في مرايا الحقول. أنفاس البنفسج.
من ضمن فتوحاته الشعرية باذخة المعاني تلك الملحمة التي أتت عبر عنوان مقاطع للحب والثورة التي غير إسمها فيما بعد لإسم (إرم ذات العماد). وهي موجودة بخط يده داخل مقتنيات الراحل مصطفى سند بداره بالثورة الحارة الثامنة.

منشوراته الشعرية خارج السودان

منذ فبراير من العام 1957 ظل كجراي ناشرا لقصائده خارج قنوات النشر المحلية وذلك حين نشرت له مجلة المنتدي الكويتية نصا بعنوان (الأحلام الميتة).؛وتوالى نشره لقصائده بها. وحين صدور مجلة لوتس الأدبية نشر بها للمرة الثانية قصيدة العنكبوت ويبدو أنه كان حفيا بها للدرجة التي ظل في تذكر لها حتى قبيل وفاته. بمجلة الدوحة القطرية نشر خلال الفترة من مايو 1978 وحتى يونيو 1981 خمس قصائد من جميل وعظيم ما خطه يراعه مثلها مثل بقية أشعاره شاهقات المعاني وموسيقى الشعر وهي: النيروز في مرافئ النجوم، عدد مايو 1978م. النهار يقول لا، عدد يوليو 1978م. وهي قصيدة فسرها مفسري وشارحي معاني الشعر بأنها تعترض وتسخر من الصادق المهدي حين وقع المصالحة مع نظام مايو. الزنبقة والملك عدد اكتوبر 1981م.

 

هجرته لأرتريا

 

حين استقلال دولة أرتريا وإنعتاقها من ربقة التبعية لإثيوبيا هاجر شاعرنا إليها كأحد مؤسسي التعليم بها فظل على العهد به شخصا جادا منتجا للعمل والشعر معطرا ليالي أسمرا بجميل مؤانساته وأشعاره.

 

احتفاء وسؤال

 

أخيرا دعونا نسأل أنفسنا من هو هذا الشاعر الضخم في انتاجه الذي كتب:

لا تجرحي الصمت فإن الليل فوق صمتكم عيون
تنفذ كإشعاع حين يرتمون
علي البعيد عبر غابة النيون
أعرف أن بيننا عوالما من المدى السحيق
ألهث في امتدادها
وأمسح الجبين من غزارة العرق
وحدي قطعت رحلة الأسى على أجنحة الأرق

سؤال لنا جميعا
هل بالإمكان الاحتفاء بهذا العملاق بعد (22) عاما بعد رحيله كأحد رموز الشعر السوداني؟.