
عصام جعفر يكتب: السودان الخرمان
مسمار جحا
عصام جعفر
السودان الخرمان
وبرز لنا من وراء التل أعرابي جاء يهرول نحونا ، وقطع الطريق على السيارة فتوقفنا، بدنه وثيابه بلون الأرض وسأله السائق ماذا يريد؟ قال: (أعطوني سيجارة او تمباك لوجه الله.. لي يومان لم أذق طعم التمباك) ولم يكن لدينا تمباك فاعطيته سيجارة …. وقلنا نقف بالمرة قليلاً ونستريح من عناء الجلوس … لم أر في حياتي إنساناً يشرب السجائر بتلك اللهفة … جلس الأعرابي على مؤخرته وأخذ يشفط الدخان بنهم فوق الوصف … بعد دقيقتين مد يده فأعطيته سيجارة أخرى …. التهمها كما فعل مع الاولى ثم أخذ يتلوى على الأرض كأنه مصاب بالصرع وبعدها تمدد على الأرض وطوق رأسه بيديه وهمد تماماً كأنه ميت … وظل هكذا طول مكوثنا زهاء ثلث ساعة … ولما دارت محركات السيارة هب واقفاً إنساناً بعث إلى الحياة وأخذ يمدحني ويدعو لي بطولة العمر .. فرميت له علبة السجائر بما فيها …
هذا المشهد المدهش كتبه عبقري الرواية العربية الاديب السوداني الطيب صالح الذي تتميز كتاباته بالعمق وسبر غور الاشياء بوصف مدهش ورائع…
الأعرابي الذي صوره الطيب صالح بثيابه التي تشبه لون الأرض ويعاني من (خرمة شديدة) يجسد لنا حال السودان الذي من سنتين مضت أثناء الحرب فقد طعم كل الاشياء ويعاني حالة ذهول وخرم شديد ..
لقد نسى الناس طعم الأمن والامان واشتاق الناس الى نومة هادئة وآمنة دون أن يقطعها عليهم الجنجويدي أو لص شفشافي ..
حرم الاطفال اللهو البري في الساحات والملاعب من فوضى السلاح …. وحرموا الحليب وشاي الصباح ..
والنساء افتقدت الالفة والمودة والرحمة في ظل الحرب والتشرد والنزوح فاصابهن العقم والجفاف..
السودان تائه في صحراء يبحث عن بوصلة تهديه الطريق ومن يعيد له توازنه ومزاجه المفقود …
السودان مرهق يعاني وبائس فقير ممد على الأرض بلا حول ولا قوة … لكنه قادر على النهوض واستعادة وعيه وحسه وإدراكه إذا مدت له يد المخلصين من ابنائه.. ولن يظل السودان هكذا تائه وخرمان