إسحق أحمد فضل الله يكتب: (اسمه… الجاغريو) ذاكرة الناس والأغنيات

إسحق أحمد فضل الله يكتب: (اسمه… الجاغريو) ذاكرة الناس والأغنيات
العيلفون بين الشعر والحكاية: من يوميات الناس إلى أسطورة الجاغريو
وفجر يوم في خريف عام ستة وأربعين، كل أحد في العيلفون يستيقظ فجرًا ويهوى بقدمه إلى الأرض لينهض، فيجد أن قدمه تغوص في الماء… كان النيل يمتد ويتجاوز الشاطئ، ويغمر السهل بينه والبيوت، ويدخل الأزقة ويدخل البيوت.
عندها الصرخة التي انطلقت مذعورة من كل فم كانت هي:
::: الزراعة…
والناس يندفعون إلى غرب العيلفون… والشمس تكشف لهم مشهدًا لا ينساه الناس زمانًا طويلًا.
المزارع غارقة، وسطح السيل مغطى بالآلاف من ثمار البطيخ.
والسنون تمضي، وكل شيء مع الأيام يتبدل، لكن معلقة الشاعر الجاغريو تبقى:
(البحر السطيت.. غيرك مافي ذكرى
كشفت العرائس… العجوز والبِكْرة
وهدمت القصور..)
كان فيضان عام ستة وأربعين ينجب الشاعر الجاغريو، الذي يتفرّد بكل ما هو معتاد، ليجعله غير معتاد.
…
والعيلفون التي ولدت، كانت ركامًا من كل زين وشين… كل شيء من الخمج كان موجودًا: البيوت التي ما زال أكثرها من الطين، والأنداية التي يصرخ شيطانها منتصف الظهيرة، وشخصيات ما يجعلها تبقى ليس هو العظمة، وإنما أن كلًّا منها يتفرد بشيء.
وما يتفرد به الجاغريو هو أنه كان يذيع كل ما يقع له، وقصائده يحملها كل أحد، والناس يحفظون:
(الجاغريو اندق
وأم شرائط راحت)
وكان هذا يوم هُزم في اشتباك وسُلِبت طاقيته.
(وخاتمي العاجب البنوت..)
حين سُرق خاتم عزيز عنده.
لكن ما يحفظه الناس من شعره كان وصفه لحادثة الغرق.
كانت العيلفون تتفرد بشيء… يكفي أن تقول: بطيخ العيلفون… شطة العيلفون، لتكون قد أكملت الثناء.
وكان هناك لوري التولة… والبطيخ في شبكة من الحبال يحمله اللوري، وجوانب اللوري من الخشب الممدود، واللوري الذي يدخل في الصراع العنيف من الحفر والأخاديد… يميل، والخشب يصرصر.
وفي رثاء المشهد هذا بعد الغرق يقول الجاغريو:
(حليل الشبكة أم غُرّة
والخشب المغرا
وميلان الحدور…)
ويعاتب البحر:
(كل ما تشوف زراعة
عليها أخدت كسرة
وحكمك كله جور…)
(2)
الرسام فان جوخ الشهير، والذي عاش حياة عنيفة في غابة تاهيتى، يسرد حياته في ثلاث لوحات، ويرسم قطة رمزًا له:
في اللوحة الأولى: القطة الساكنة، كانت عيونها تقول إن حريقًا يدب في داخلها ويتمدد… كانت غاضبة، حزينة.
في اللوحة الثانية: القطة كانت متحفزة، تكتم هيجانًا حارًا.
في اللوحة الثالثة: القطة أصبحت قنبلة، وشعرها شظايا مدببة تتمطى للانطلاق، وتكاد تجعلك تجفل.
الجاغريو عاش حياة مثلها.
وفي الشعراء هناك الشنفرى… الشاعر الذي عاش مع سيفه ومع الذئاب، وكان ذئبًا مدبب الشعر، مدبب الأنياب، يتمطى فخرًا وشعرًا:
(ولي دونكم أهلون
سيد عملس… وأرقط ذهلول… وعرفاء جيأل)
وهي الذئب والنمر.
وعنده قوسه التي:
(إذا زل عنها السهم حنّت كأنها
مرزأة ثكلى تَرِنُّ وتثكل)
الجاغريو لم يكن يعيش مع الذئاب ولا في الصحراء كما ترى العين، لكنه في مراحله الثلاث كانت له صحراء وذئاب تحت ضلوعه يعيش معها.
كانت له الانطلاقة في الصبا، ثم حياة متحدية أيام الرجولة (وكان اتحاديًا ملازمًا للرئيس أزهري…).
وفجأة… الجاغريو الذي كان في كل مكان يختفي من كل مكان.
يدخل حياة هادئة صامتة، لها توب وتوبة ومركوب.
وفيها كتب معلقته الثانية:
(خلاص… الليلة ودعناك
مشروب الحرام المُر
إن شربك جرف ما أظنه
عرقو يشر…)
ويقول للسكر: (على بابك كتبنا هجر)
والأولى: ما أظنه عرقو يشر… صورة ترى فيها الزرع وهو خاوٍ، مطرق الرأس.
والثانية ترى باب السنط القديم… مغلقًا.
كان الجاغريو رسّاماً، والصور التي صنعت الجاغريو في العيلفون كانت هي:
شيخ بخيت، الذي يجلس أمام داره ليلاً ونهاراً… لكنه يعلم بكل شيء. الرجل يرى أثر ظلف في الطين فيقول:
“دي سخلة غنماية عباس الضاعت عام أول”،
وكان هذا صحيحاً.
وكان هناك الطيب خير، الذي يظل يحكي أن جده كان يحارب أيام المهدية، وأن رأسه قُطع بضربة سيف، وأنه لا يشعر بذلك إلا حين يجلس ناحية (ليسف)، فيرمي السفة فيما يعتقد أنه رأسه… وحين تسقط السفة خلفه، عندها يعرف أن رأسه قد قُطع!
وما حول الجاغريو في العيلفون كانت ظاهرة أن الناس يسجلون كل شيء شعراً.
العيلفون تُصاب يوماً بالتسمم… والسم كان في إناء بائعة اللبن، واللبن يشربه عدد كبير من الناس.
والأمر ينفجر، والحكيم والداية كلاهما يتجارى في البيوت لإسعاف الناس.
والشعر بعدها يحكي:
(الحكيم اتلهى
وحتى الداية تجي معا
لا خلّوا حامل لا خلّوا نفسا
وحتى البمشي والبحبا)
ويصفون من رفضوا اللبن، ومن أخذوا يتقيأون تحت الشجرة:
(ود فلان خواف
وبخيت عواف
الجنيات ظراف
الملو الشدرة قضاف)
والحكايات لا تنتهي.
إذن… لمَ كان الجاغريو متفرداً؟
الجاغريو، الذي كان يكتب أغانيه ويغنيها بإعجاز، لم يكن حلو الصوت… كانت في صوته بُحّة وشيء من خشونة، لكنه كان ساحراً بصورة ما. كان يكفي أن يُقال: (الحفلة بالجاغريو)، فيُهز الرق، وبخُفوت يبدأ الغناء… دائماً قصائد نصفها “قطع أخدر”، والنساء يخرجن إلى الحفل ذاهلات.
المغنون في العيلفون كُثر، لكن ما كان أحد يجرؤ على الغناء في حفل يغني فيه الجاغريو.
والجاغريو كان، مع آخرين أربعة، هم النجوم: سيد خليفة، خلف الله حمد (الدبيبة)، أحمد المصطفى، و… ود الرضي الشاعر من أم ضوا بان.
الجاغريو وود الرضي عاشا الأيام ذاتها، لكن فرقاً كاملاً كان يميز هذا عن ذاك.
كان شعر الجاغريو شيئاً مثل صلصلة الذهب، بينما كان شعر ود الرضي مثل نَبَح الدلوكة.
ود الرضي كان شعره حكيماً، لكن الناس لا تلتقط منه إلا ما فيه أنفاس (الحس):
(أنا… أنا… بالتمني)
وكان أول شاعر يغني لزوجته، بينما كان مثيراً للسخرية أن يمدح أحد زوجته:
(ست البيت
بريدا حلاتا
ما سابت الشباب لبناتا
ما قالت بقيت حبوبة
وتركت بوختا المحبوبة)
والمدهش أن أغنية (أنا بالتمني) قصتها هي:
ود الرضي، حوار الخلوة وله تسع أو عشر سنوات، يقتحم بيت عرس كما يفعل الصبية، خصوصاً الحيران… وهناك يدخل غرفة، ويفاجأ بالعروس وقد جردتها النساء لما هو معروف… فيُطرد ويخرج ضاحكاً. والسنوات تمر، والفتى يكبر، ويستعيد المشهد ويكتب القصيدة تلك.
لكن الشيخ ود الرضي يحفظ له أهل الظل بعض أقواله التي تبقى:
(آخر الزمن الأرض تشيب
والحرة تعيب
والعاقة تجيك من القريب)
…
الجاغريو، الذي كان أنيقاً معطراً، لعله كان يحمل في صدره موران يجعله ينظر إلى كل ما عنده وما يحيط به فيجده… كلام فارغ.
وكان يسمع في الفجر صوت شخص له حكاية: فمن كان يؤذن لصلاة الفجر كان يوماً يصنع مشروب الحرام المر. ويوماً، الناس تجد شخصاً على المئذنة ينبههم لصلاة الجمعة، ثم يؤذن للجمعة… ثم للعصر… للمغرب… للعشاء… ويلزم المسجد حتى موته. وكان جميلاً صوته جداً.
وظاهرة انتقال المغنين من الغناء إلى الأذان ظاهرة تبقى حتى اليوم.
ولعل الجاغريو كان يجد الجواب الذي يدوي في عروقه:
“ما أنا… وماذا أفعل؟”
ويختفي الجاغريو…
ويوماً، في ظهيرة حارة صامتة، ارتفعت صرخة من فريق القبة:
“الجاغريو مات!”
والساحة هناك امتلأت.
وساعة، و(العنقريب) يخرج مغطى بخُضر المطارف…
ولأول مرة، دون أن يقول أحد لأحد، كان الجميع ـ رجالاً ونساءً ـ يقفون على جانبي الطريق، تحية ووداعاً للجاغريو.
كان الجاغريو يغيب… ويحمل معه كل العيلفون القديمة.