القول الفصل في الوضع والنحل في شعر وسيرة جماع

حفريات في أضابير وأسافير: الحلقة (١-٢)

القول الفصل في الوضع والنحل في شعر وسيرة جماع

بقلم: صديق المجتبى

 

مقدمة: آفة الأخبار رواتها كما يقولون، وقد ضربت هذه الآفة الأدب والشعر وحتى الحديث الشريف لم يسلم من آفة الرواة في النحل والوضع ولكن علماء الحديث تصدوا لهذه الظاهرة بمناهج علم الحديث وفرعه الجرح والتعديل الذي يتحرى عن صحة النص وتواتر روايته والتحري عن الرواة أنفسهم ومدى مصداقيتهم وجواز الأخذ منهم من عدمه. حتى لا يتم تحريف الحديث والسيرة النبوية.
ذكر محمد بن سلاّم في كتابه «طبقات فحول الشعراء» السفر الأول الصادر عن دار المدني بجدة في مقدمته ص ٤: «وفي الشعر مصنوعٌ مفتعلٌ موضوعٌ كثير، لا خير فيه، ولا حجة في عربيّته، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يُستخرج، ولا مثل يُضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر مُعجِب، ولا نسيب مستطرف. وقد تداوله قومٌ من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء. وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صُحُفي».

تناول هذا الموضوع عدد من النقاد العرب المعاصرين وصار جدل كثير حول بيتين شهيرين في وصف الحظ العاثر نسبا إلى عدد من الشعراء كما سنرى في ثنايا هذا البحث وسنورد هنا إفادات من أحد معاصري الشاعر ونشير للوقت الذي كتبت فيه قصيدة “انت السماء” من ديوان الشاعر وتعليقه بقلمه عليها مشيرا إلى أنها من بواكير شعره مما ينفي ارتجالها في المطار والقصة التي نسجت حولها. وفي الحلقة الثانية سنتناول تحقيقاً حول نسبة البيتين الأشهر في وصف البؤس والحظ العاثر
“إن حظي كدقيقٍ فوق شوكٍ نثروه”.. المنسوبة مرة إلى إدريس جماع، ومرةً نسبها الاستاذ محمد محمود رضوان في كتابه عن حياة الشاعر المصري عبد الحميد الديب بعنوان “الصعلوك الساخر وشعره المجهول” وقدم له الاستاذ الشاعر فاروق شوشة رحمه الله، وقد أورد هذه الأبيات منسوبة للديب ثلاث مرات ومرة نسبها “صاحب الإيضاح في علوم البلاغة” جلال الدين القزويني الشافعي للإمام الشافعي، ومرة نسبهما الدكتور عمر موسى باشا في كتابه “تاريخ الأدب العربي في العصر العثماني للشاعر “أمين الجندي المتوفى سنة 1257ه – 1841م” فظلت هذه الأبيات هكذا وقصتها تائهة يتناقلها الرواة وناحلو الشعر قبل ميلاد الشاعرين إدريس جماع والمصري عبد الحميد الديب..
وكذلك كتب د. عبد الله فيصل آل ربح في الثامن من يناير 2025 م، في صفحة الرأي في (الشرق الأوسط)، مقالًا عنوانه: (دراما أبو ماضي)، أحسن فيه تأملاته في استكشاف معاني بيتين من أشهر أبيات الشعر الحديث عن الحظ العاثر، وبيان سوء طالع الشاعر، وتعاسة دنياه، وشقاء بخته. وفي بدايات المقال قال الكاتب، إن الأبيات التي بنى مقالته عليها “يرددها كثير من الناس دون أن يعرفوا هويَّة قائلها”، وإسهاما منه ، في ردم أمية هؤلاء، نسبها الأستاذ الكاتب عبد الله فيصل آل ربح، في مقاله المشار إليه أعلاه، إلى الشاعر اللبناني، الراحل، إيليا أبو ماضي كما ذكرنا،
لقد ظلت هذه الأبيات تائهة مجهولة النسب تتناقلها الأقلام والألسنة كمولود فاقد الأبوين اشْتُهِرَ بعبقرية فذة بين الناس فشغل الناس بالبحث عن أبٍ ينسب إليه بشهادة ميلاد موثقة، إن البحث عن كاتب النص في عالم الأدب لأصعبُ من البحث عن الأب البايولوجي للمولود البشري في هذا العصر بفحص الحمض النووي DNA للأبوين والجنين وهذا ما لا يتوافر في حالة البحث عن أب لنص شعري أو قطعة نثرية بالبحث في الخصائص الأسلوبية وشواهد ودلالات سياقية في العصر وتاريخ الوقائع التي تسببت في ميلاد القصيدة أو النص، لوجود الكثير من التشابه الأسلوبي وذلك لما وقع في الشعر من نحلٍ ووضع وتواتر معاني وصور من البيئة وتناص واقتباس ووقع الحافر على الحافر والتضمين من قصائد شعراء منسيين أو لم ينالوا حظاً من الشهرة كما في حالة هذين البيتين الذين ظلا في حالة يتم وتشرد بين الأقلام وألسنة الرواة لقرون مضت فلا بد من بحث مُضنٍ يبذل لإنهاء حالة اليتم التي تعيشها الكثير من النصوص دون معرفة قائليها. وللأسباب المذكورة أعلاه لا يمكن الوصول إلى المصدر الحقيقي لهذين البيتين في الإنترنت، لأنك ستُواجَه بسيل عارمٍ من المعلومات التي تنسب الأبيات لأحد شاعرين: – الشاعر المصري الراحل عبدالحميد الديب. – والشاعر السوداني الراحل إدريس جمَّاع حسب ما هو شائع في محرك البحث العملاق قوقل وذلك لأن البيتين يصوران ما كان في حياة الشاعرين المذكورين من الأسى والبؤس والشقاء، ما يجعل نسبة الأبيات التي تصف البؤس لأي منهما مناسباً، نسبة لما عاشه كل منهما في حياته من عُسرٍ، وضنك، وشظف، رحمهما الله. وستجد أن نسبتها لجمَّاع، أكثر من نسبة الأبيات لغيره، ووردت هذه النسبة في كتب بعض المؤلفين ممن يُشار لاسمه بالبنان، في حسن التأليف، وجودة التصنيف، واعتماد المراجع واستخدام المصادر في كل ما يكتبه. كما أن الشاعر جمّاع عاش حياة بائسة، مما جعله الأحرى بأن يقول شعراً كهذا، في وصف واقع حياته التي لم تخل من بؤس، يعرفه كل من قرأ سيرته المحزنة، والتي دفعت بالإضافة إلى شعره الرقيق، وجمال معانيه، واختلاف مبانيه، الكثير من النقاد وذواقة الشعر إلى التعاطف معه.

 

التحقيق في قصص وحكايات نسجت حول سيرة الشاعر جماع

 

لقد نسج المخيال الشعبي الكثير من القصص والحكايات
عن الشاعر بما يتسق مع سيرته المأساوية وحساسيته المفرطة وحالة الذهول التي لازمته والتي لم تؤثر على ذهنه العبقري الوقَّاد وموهبته الشعرية الفذة: وفي هذا السياق تداول الكتاب والنقاد والحكواتية بعض القصص من نسج الخيال الجمعي الذي رسم لجماع صورة قابلة للمزيد من المواقف الطريفة التي تشل طرافتها قدرة المتلقين على التفكير في صحتها أو عدمها بربط أحداثها بالسيرة الحقيقية للشاعر، أو إيراد أقوال مفبركة لبعض عمالقة الأدب والفكر حول التعليق عن واقعة معينة لتعزيز صحة الرواية. مثلا قصة أن جماع كان في مطار لندن ذاهباً من أجل العلاج، وكان علاجه المطلوب هو الشفاء من حالة الذهول التي أصابته ولم تؤثر على عبقريته الشعرية، والذي ظل يقوله الشعر كما يتنفس فصار أسلوبه في التعبير عن أي موقف جمالي أو مأساوي يحرك أوتار نفسه. مثلا ما روي عنه أنه في المطار في تلك الرحلة المزعومة إلى لندن، رأى امرأة فائقة الجمال، ترافق زوجها، فأطال الشاعر النظر إليها في انبهار، وكان الزوج يحاول أن يسترها عنه، منعاً لنظراته التي فضحت حبه لها وهيامه بجمالها مشبوباً بالحنين والحسرة والندم على مما يدل أن تلك المرأة كانت تذكره بعلاقة حب قديمة ولم يكن ذلك اللقاء صدفة أو عابراً لما تحمله الأبيات من دلالات على ذلك، وهي:
– وصف الشاعر تلك المرأة الجميلة بالسماء التي استعصمت عنه بذلك البعد السحيق والمنال المستحيل
– ولام زوج المرأة على غيرته من مجرد نظرة تسعد الروح المعذب بذلك العشق الأبدي إلى ذلك الجمال الذي أنساه وقاره ورباطة جأشه وجعله يديم النظر إليها بتلك العيون المتلهفة الملتهبة بالحب والشوق والهيام المفضوح
– نظر إليها الشاعر بلهفة وحنين تعتريه الحسرة على قصة غرام قديم طواه الدهر، لأن غيره اختطفها من حياته وصارت بعيدة كالسماء وأن الطريق إليها أصبح شاقا ووعراً
– إلى آخر القصيدة
ولتأكيد صحة القصة التي نسجها المخيال الشعبي، فإن الرواة يعملون على اختلاق قصة مساندة وداعمة لروايتهم بافتراء تعليق من أحد الثقات في الفكر والأدب لأن مجرد ورود اسمه مقروناً بالقصة الموضوعة وعذوبة وجمال القصيدة وما فيها من سحر البيان الأخاذ والصور الشعرية الجميلة فإن ذلك يضفي عليها شيئاً من المصداقية ولتأكيد صحة قصة افتتان الشاعر بامرأة جميلة في المطار قالوا:
إن الأديب عباس محمود العقاد عندما سمع هذه القصيدة في ندوته سأل عن قائلها، فقالوا له: إنه الشاعر السوداني إدريس جمَّاع، وهو الآن في مستشفى المجانين. فقال: هذا مكانه، لأن هذا الكلام لا يستطيعه ذوو الفكر. ورأيُ العقاد هذا إن صحت الرواية، يفتح باباً للبحث عن علاقة الشعر بالجنون وعن لماذا لا تضعف ملكة الابداع والقدرة على تذوق الجمال عند الشعراء الذين أضعفت قوة مشاعرُهم عقولهم، نتيجة لسيطرة عاطفة الحب عليهم، وهل الجنون هو ذهاب الوعي والحضور الذهني. وهل مجنون ليلى مجنون بمعنى ذهاب العقل، ومما ينبغي ملاحظته هو وعيه الفني وعبقريته في اختيار في ديوانه الذي اشتق من بعض كلماتها هو: “أنت السماء”. لكن بعض النقاد ومعاصري الشاعر يرون أن قصة المطار هذه ليست بصحيحة، ولم يثبت أن جماع قد سافر إلى لندن، والقصيدة، موجودة في أواخر قصائد ديوانه “لحظات باقية” ط٤ الصادر عن دار الفكر بالخرطوم ص ١٠٢ وقد كتب عليها الشاعر بقلمه “من الومضات الأولى لشاعرية المؤلف” مما يعني أنها من بواكير إنتاجه الشعري في عهد الصبا، وهذا يثبت بالدليل القاطع أن ربطها بقصة المطار والمرأة الجميلة غير صحيح، لأنها تتحدث عن عشق قديم وليست قصة نظرة ساحرة ولقاءٍ عابر كما ذكرنا آنفاً، ولا يوجد سند لرواية تعليق العقاد، أن العباقرة مكانهم مستشفى المجاذيب وإن كانت تلك النظرية صحيحة، إذاً لأُودِع هو وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم في ذات المستشفى والأمر يحتاج إلى تحقيق لأن عالِماً مثل العقاد يستحيل أن يطلق الحديث على عواهنه، ومما يدل على أن هذه القصة من صنع الخيال الشعبي السوداني، ما لها من جذور في الثقافة السودانية لوصفهم للمبدعين بالمجانين وإذا أعجبهم عمل خارق يصفون صاحبه بالجنون وقد تطرقت لذلك في بحثي الذي نشرته هنا بعنوان “أنشودة الجن رؤية مغايرة” وقد كانت العرب قديماً تعتقد أن الشعراء يتلقون الشعر من وادي عبقر وهو وادٍ في اليمن تسكنه الجن ومثل هذه القصص كثيرة في تراثنا العربي.

ومن القصص الموضوعة في سيرة الشاعر أيضاً، أنه افتِتنَ بعيني ممرضته الإنجليزية في المستشفى اللندني، وهو أصلا لم يزر لندن، فأطال النظر إلى عينيها، فخافت من نظراته وشكت ذلك إلى مديرها، فنصحها بارتداء نظارة شمسية سوداء، لتفادي نظرات المريض، ولمَّا رآها الشاعر ترتدي النظارة السوداء، أنشد قائلًا:
السيفُ في الغِمدِ لا تُخشى بتارتُهُ وسيفُ عينيكِ في الحالينِ بَتَّارُ
هذان البيتان لا يوجدان في ديوان لحظات باقية والراجح أن الشاعر استشهد بهما مع تغيير بعض الكلمات في النص الأصلي
وهو من تأليف الشاعر المصري علي الجندي في قصيدة ألفها على لسان ثلاثة ظرفاء كانوا يتبارون في وصف فتاة حسناء أقبلت تتهادى في محطة الترام هيفاء تضع نظارة سوداء غطت بها عينيها الجميلتين فورد هذان البيتان في تلك القصيدة ولكن بألفاظ مختلفة:
لاَ تَحْسَبيِ جفَنَكِ الْمَكْحُولَ تَمْنعُهُ
مِنْ أَنْ يَصُولَ عَلَى الْعُشَّاقِ أَسْتاَرُ
السَّيْفُ فيِ الْغِمْدِ لاَ تُخْشَى بَوَادِرُهُ
وَسَيْفُ جَفْنِكِ فيِ الْحَاَلينِ بَتَّارُ
دَعِي عُيَوْنَكِ تَلْقاَناَ بِلاَ حُجُبِ
فَلَلعْيُوُنِ مُناَجَاةٌ وَأَسْرارُ
وَلاَ تَخَافيِ عَلَى الْمُضْنَي لَوَاحِظَهاَ
فَجُرْحُهُ مِنْ عُيُونِ الْعَيْنِ تَغَّارُ
لَوْ لَمْ أُحِلَّ لْمَنْ أَهْوَاهُ سَفْكَ دَمِي
لَمْ تَبْقَ حَسْناَء إِلاَّ وَهْيَ ليِ ثَارُ
تِلْكَ السِّهاَمُ – وَإنْ أَصْمَتْ – مُحَبَّبَةٌ
كَمْ مْنْ قَتِيلٍ لَهُ فيِ الْقَتْلِ أَوْطَارُ
أنظر موقع ويكي مصدر على الجندي مجلة الرسالة العدد 489 16▪11▪1942

لقد فات على عبقرية المخيال الشعبي في حبك القصص والحكايات أن البيتين منشوران في مجلة الرسالة التي لا تتوافر في ذلك الزمان إلا للخاصة من المثقفين، ربما كان واضع تلك القصة قد اطلع على قصيدة الجندي واقتطف منها هذين البيتين ونحلهما للشاعر إدريس جماع هذه المرة في نسبة البيتين موضوع البحث لشاعرنا جماع
ولكن قصة سفر جماع إلى لندن وارتجاله لهذين البيتين في وصف عيون الممرضة غير صحيحة. وكذلك القصيدة التي قالها في المطار كان قد كتبها في شبابه لمحبوبة الصبا والشباب ولم تكن مرتجلة في المطار.
لقد ذكر صديقه ورفيق صباه الشاعر منير صالح عبد القادر ابن الثائر صالح عبد القادر عضو جمعية اللواء الأبيض، وكنت ألتقيه كل أمسية أربعاء في ندوة صديقه الأستاذ الشاعر مبارك المغربي بحديقة المجلس القومي للآداب والفنون في نهاية سبعينيات القرن الماضي وكان مولعاً بالحديث عن أبناء جيله من الشعراء ويعرف الكثير عن سيرهم ويحفظ الكثير من قصائدهم ويعرف مناسباتها وكان له عمود صحفي راتب بعنوان أشياء أشتات أظنه كان في جريدة الصحافة إن لم تخني الذاكرة.
كتب الأستاذ منير صالح عبد القادر كلمة ضافية عن حياة الشاعر صدَّر بها ديوانه “لحظات باقية” كتبها في أبوظبي بتاريخ ٢١/٣/١٩٨٤ كما أنه كتب قصيدة عصماء في العام ١٩٧٣ في وداع إدريس جماع في سفره للعلاج في بيروت نشرها في أول ديوان الشاعر. كتب في مقدمتها الإهداء الآتي: “إلى أخي إدريس جماع لقد شهدتك وأنت تعبر إلى الشاطئ الآخر إلى ما لا نهاية فلا تعد”
وذيلها بالإفادة الآتية
” كان الشاعر جماع قد أُرسِل للعلاج في بيروت لاستعادة قواه ولرجوعه إلى عالمنا، وكنت قد أحببت أن يظل في دنياه التي اختارها لأنه لا يحسن الصفات التي يتصف بها العقلاء، فتوجهت إليه لأخبره بمشقة الرجوع وما يلقاه الراجع من إضطراب بين الحقيقة والخيال” (أنظر المرجع نفسه ط٤ ص ١٤)
سقنا هذا الحديث لننفي حكاية سفر الشاعر إلى لندن وقصة الممرضة الإنجليزية التي زحمت الأسافير والمجالس والنقاد الصحفيين الذين يتخطفون مثل هذه الحكايات ليطرزوا بها مقالاتهم ويثيروا أعجاب جماهيرهم القراء وسمار المجالس.
وعدم صحة نسبة البيتين اللذين وصف بهما عيني الممرضة للشاعر إدريس جماع.

في الحلقة القادمة سنقدم تحقيقا حول هوية البيتين الأشهر في الأسافير
إن حظي كدقيقٍ فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
صعب الأمر عليهم
بعضهم قال اتركوه.