صديق المجتبى يكتب: القول الفصل في الوضع والنحل في شعر وسيرة الشاعر إدريس جماع

حفريات في أضابير وأسافير

 

القول الفصل في الوضع والنحل في شعر وسيرة الشاعر إدريس جماع (2-2)

صديق المجتبى

*****

قدمنا في الحلقة الأولى تحقيقاً حول صحة ما حيك حول شاعرنا الفذ إدريس جماع من قصص وحكايات من نسج الخيال الشعبي حول سفره إلى لندن ونفينا ذلك بإفادة من الشاعر منير صالح عبد القادر، صديق الشاعر ورفيق صباه وقدم إفادات لم يتعرض لها كتاب سيرته، أثبتها في كلمة ضافية عن حياة الشاعر في صدارة ديوانه. ونفينا قصة المطار والمرأة الحسناء التي زعموا أنه ارتجل فيها قصيدته “انت السماء” وأشرنا إلى أنها من شعر الصبا كما أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في تعليق له تحت عنوان القصيدة يقول فيه:
“من الومضات الأولى لشاعرية المؤلف”
كما نفينا نسبة البيتين اللذين وصف فيهما عيني الممرضة الإنجليزية إلى جماع.
بالبحث في موقع “ويكي مصدر” الذي تضمن عدداً هائلاً من المراجع في الأدب والفكر والتاريخ والعلوم مع آلة بحث تغوص في أغوار هذه المراجع، حيث ثبت لنا بالدليل أن البيتين
السيف في الغمد لا تخشى بواتره
وسيف عينيك في الحالين بتارُ
ليسا من تأليف الشاعر إدريس جماع
وأنهما للشاعر المصري علي الجندي وردا باختلاف طفيف في بعض الألفاظ ضمن قصيدته “ذات المنظار الأسود” المنشورة في مجلة الرسالة عدد ٤٨٩ بتاريخ 16•11•1942
لكن الجدل استمر في نسبة أبيات الحظ العاثر، وللفائدة ننشر هنا ما نشره الكاتب السعودي تركي الدخيل عن البحث الذي أجراه الباحث السعودي ،الأستاذ ابراهيم بن سعد الحقيل، مؤكدا أن الأبيات ليست لجمَّاع ولا للديب، كاشفًا أن البيتين الأصليين جاءا في كتاب عاش مؤلفه في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وهو كتاب (المناقب والمثالب)، لأبي الوفاء ريحان بن عبدالواحد الخوارزمي، المتوفَى في حدود سنة 430 هجرية، ونشر في دار البشائر، بتحقيق إبراهيم صالح، وطبعته الأولى كانت في العام 1420هـ = 1999م. ونسب الخوارزمي إلى اللَّباديّ، قول البيتين، وأوردهما، مع تبديل كلمة (حظي)، ب(رزقي)، بهذه الصيغة، في ص 320:
إنَّ رِزقي كدقيقٍ بين شوكٍ بدَّدوهُ
ثم قالوا لِحُفاةٍ يوم ريحٍ اجمعوهُ
وبذكر البيتين في كتابٍ يعود للقرنين الرابع والخامس الهجريين، وبهذا التوثيق ينتفي أي احتمال أن يكون شاعرهما من المعاصرين، فالمثبت مقدم على المنفي، كما يُقال، والبينة على المدعي. ونقل الخوارزمي عن اللّبّادي ست مرات في كتابه، مكتفيا من اسمه باللبادي، وفي أول مرة نقل عنه في ص 102، قال المحقق في الهامش: (292): اللبادي: لم أعرفه. ثم أورده المؤلف برقم 799، فقال المحقق في الهامش: اللبادي: شاعر من أهل أذربيجان، ذكره ابن خلكان، ونقل عنه أخبارًا طريفةً. (وفيات الأعيان 5/ 381). ص 251، 252. وفي ص 318 أورد الخوارزمي شعرا للبادي برقم (1077)، وعلّق المحقق في الهامش، فقال: “نقل ابن خلكان 5/ 381 عن الهدايا والتحف للخالديين 94 خبرا عن اللبادي الشاعر. وفي ص 320 أورد المؤلف أبياتنا موضع الحديث، للبادي، برقم 1085. كما ذكر في الصفحة التالية أبياتًا للبادي، برقم 1089، ص 321. وفي ص 386 ساق للبادي بيتا برقم 1372، وتلاه ببيت بعده جاء في ص 387. ولم تحفل كتب التراجم بذكر اللبادي، سوى ما ذكر عنه أبو الحسن علي بن محمد الشابشتي (ت 388 هـ = 998 م)، مؤلف كتاب (الديارات)، في أخبار الأديرة (جمع دَيْر) (وهو مكان التعبد عند النصارى)، فقد ذكر قصيدة للبادي في أحد الأديرة، وزيارته له. قال الشابشتي: “وكان هذا اللبادي يُكنى أبا بكر، أحمد بن محمد”، ووصفه بأنه “من طِياب الناس ومِلاحهم، وذوي المِجانة والخلاعة. وسُمِّيَ اللبادي، لأنه كان يلبس أبدًا على ثيابه لباداً أحمر”. وأورد له قصائد وأبيات، وذكر أنه مدح أبا القاسم يوسف بن داود بن أبي الساج، والذي كانت وفاته سنة 315 هـ، ما دلَّ على أنَّ اللبادي شاعر البيتين القضية، كان يعيش في القرنين الثالث والرابع الهجريين أي قبل أكثر من ألف وثلاثمئة عام هجري من ميلاد الشاعرين جماع والمصري عبد الحميد الديب.
أوردنا هذا التحقيق لمزيد من الاستقصاء لمن أراد أن يطلع على هذه المصادر
وطالما أن المصادر قديمة في التراث الأدبي العربي ربما استشهد بهما الشاعران جماع والديب لوصف حالة البؤس التي كانا يعيشانها، وبما أن قائلهما غير معروف أو منسي فإن النقاد قد ظنوا أنها من تأليف أحد الشاعرين
وهذا يشير إلى القضية الأدبية الكبرى بين الناقد والشاعر التي كتب عنها شاعرنا التجاني يوسف بشير في مقال له نشره فيمجلة الفجر ربما في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي وسيكون ذلك أحد موضوع حفرياتنا لاحقاً.