إبراهيم شقلاوي يكتب: السودان والرباعية .. خذلان يتجدد

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

السودان والرباعية… خذلان يتجدد!

انشغل السودانيون مطلع الأسبوع بما عُرف بمبادرة المجموعة الرباعية “الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات”، التي طُرحت كتسوية جديدة للأزمة السودانية. غير أنها، وفق تقدير فاعلين سودانيين كُثُر، تُعيد إنتاج الأزمة ذاتها من خلال مقاربة تقليدية غير فعالة، تعكس قصورًا متعمدًا ربما في فهم الواقع الداخلي وتوازنات القوى على الأرض.

رغم الغلاف الدبلوماسي الذي جاءت به مبادرة الرباعية، لا سيما الدعوة إلى هدنة إنسانية لثلاثة أشهر، تتبعها فترة انتقالية قصيرة الأجل، فقد قوبلت هذه المبادرة برفض واسع داخل السودان، على المستويين الرسمي والشعبي، لكونها تساوي بين الدولة وميليشيا متمردة، وتطرح مسارًا سياسيًا يتجاهل الإرادة الوطنية التي ما فتئت تُعبّر عنها الأغلبية الرافضة لأي حلول تُفرض من الخارج.

الحكومة السودانية لم ترفض مبدأ الوساطة الدولية من حيث المبدأ، لكنها تضع خطوطًا حمراء واضحة، مفادها أن أي مبادرة لا تحترم السيادة الوطنية، ولا تنطلق من الاعتراف بشرعية مؤسسات الدولة، أو تسعى إلى معادلة الجيش الوطني بميليشيا مدعومة خارجيًا، لن تجد القبول. بل ذهبت وزارة الخارجية إلى أبعد من ذلك، في بيانها امس حين وصفت ميليشيا الدعم السريع بأنها جماعة إرهابية ترتكب جرائم حرب ممنهجة، محذرة المجتمع الدولي من مغبة تمييع المفاهيم وتجاوز الحقائق القانونية والسياسية الواضحة.

هذا الرفض امتد إلى قوى وطنية وسياسية وشعبية عبّرت عن موقف مبدئي رافض لمضامين المبادرة، خصوصًا لمشاركة الإمارات التي تتهمها هذه القوى ، بدعم الميليشيا بالمال والسلاح والمرتزقة، معتبرة أن فاقد الأهلية السياسية والأخلاقية لا يمكن أن يكون وسيطًا نزيهًا.

وقد برز هذا الرفض من جهات متعددة مثل التيار الإسلامي العريض، المؤتمر الوطني، الحركة الإسلامية، الحراك الوطني، المؤتمر الشعبي، والحركة الوطنية للبناء والتنمية، الذين رأوا في المبادرة محاولة لفرض تسوية مختلّة لا تعكس ميزان القوى ولا تراعي تطلعات الشعب السوداني.

في الواقع، أصبح السودانيون أكثر وعيًا بطبيعة الصراع الذي تخوضه بلادهم، وأقل استعدادًا لتكرار تجارب التسويات المفروضة من الخارج. إنهم يدركون أن الدولة تواجه تمردًا مسلحًا مدعومًا من قوى إقليمية، وليس مجرد أزمة سياسية بين أطراف متنازعة. لذلك، فإن أي حل لا ينبع من الداخل، ولا يحترم شرعية الدولة ووحدة البلاد، هو في نظرهم وصفة جاهزة للفوضى واستدامة العنف.

أما الرباعية، فمحاولتها تقديم نفسها كوسيط نزيه تصطدم بعقبتين أساسيتين: أولًا، فقدان الثقة الشعبية، خاصة في طرفين من أطرافها، الإمارات والولايات المتحدة، نتيجة لما يُنظر إليه على أنه انحياز واضح للميليشيا.

وثانيًا، القراءة السطحية للمشهد السوداني، وعدم استيعاب التغيرات الكبيرة التي حدثت على الأرض، سواء في موازين القوى العسكرية أو في المزاج الشعبي والسياسي داخل السودان.

على المستوى الداخلي، يواصل الجيش السوداني تقدمه الميداني في عدة جبهات، خاصة في كردفان الكبرى، ما يُضعف أوراق الميليشيا بشكل يومي. وهذا التقدم لم يُترجم فقط على الأرض، بل أيضًا في تزايد الالتفاف الشعبي حول القوات المسلحة، بجانب ما تعانيه الميليشيا من انقسامات، وارتفاع الأصوات التي تطالب بحوار داخلي حقيقي، تقوده القوى الوطنية المؤمنة بوحدة السودان وسيادته، بعيدًا عن أي وصاية أو ضغوط خارجية.

إقليميًا، فإن موقف الرباعية لا يعكس تماسكًا حقيقيًا، رغم البيان المشترك. فبينما يُنظر إلى الإمارات على أنها طرف غير محايد، تميل السعودية ومصر إلى نهج أكثر حذرًا، وربما استعدادًا لمراجعة مواقفهما بما ينسجم مع استقرار السودان، لا سيما أن أمنه يُعد جزءًا من أمنهما القومي المباشر. هذا التمايز داخل الرباعية قد يتعمق مع تطورات الميدان، ومع ازدياد الانتقادات العلنية داخل السودان ضد الأطراف المتورطة في دعم الميليشيا.

أما المجتمع الدولي، فهو يبدو في حالة ارتباك بين شعارات السلام والواقع المعقّد. فالولايات المتحدة تُدرج السودان ضمن ملفات “الاستقرار الإقليمي”، لكنها لم تحسم موقفها بوضوح، فيما تبدو الأمم المتحدة عاجزة عن تنفيذ قرارات مجلس الأمن، في ظل الانقسام الدولي وغياب الإرادة السياسية.

هذا المشهد قد يدفع السودان إلى تعزيز علاقاته مع قوى دولية أخرى أكثر انفتاحًا على سردية الدولة المتعلقة بتعريفها لطبيعة هذه الحرب، مثل روسيا والصين، وغيرها، في إطار سياسة خارجية واقعية تضمن بقاء السودان لاعبًا أساسيًا في المنطقة، لا تابعًا يخضع للإملاءات.

وفي ظل هذا المشهد المتداخل، تتجدد مشاعر الخذلان لدى السودانيين تجاه من يُفترض أنهم “شركاء سلام”، بينما لا يرون في مبادراتهم سوى محاولات لتدوير أزمة لا يمكن حلّها إلا من الداخل، وعبر مشروع وطني جامع يضع حدًا لمعاناتهم، ويعيد تعريف السلطة على أسس سيادة الدولة وإرادة شعبها.

لقد أثبتت التجربة السودانية، بحسب #وجه_الحقيقة، بما لا يدع مجالًا للشك، أن التغيير الحقيقي لا يصنعه بيان رباعي، ولا تُنجزه غرفة عمليات خارج الحدود. إن الحل المستدام يبدأ من الداخل، ويتحقق بإرادة السودانيين وحدهم، حين تتوحد الرؤية الوطنية، وتعلو المصلحة العامة فوق الحسابات الجيوسياسية والتوازنات البائسة.

دمتم بخير وعافية
الأحد 14 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com