مبارك المغربي .. عاشق النيل

مبارك المغربي .. عاشق النيل
بقلم: أمير أحمد حمد
مرت الأيام كالخيال أحلام .. وانطوت آمال كم رواها غرام
ومرت ومر نعيم
كان ظني فيه بطول لكنه مر سريع
هي واحدة من روائع الغناء السوداني كتبها رجل وسيم وأنيق المظهر والجوهر كان حينما يمر في الحي يعرفه الناس بأنوفهم قبل عيونهم لأنه كان مصعب زمانه في الملاحة والأناقة وعطره الذي يفوح في المكان قبل أن تطأه قدمه. وفي هذا المقال أظنكم قد تعرفتم عليه بعطر كلماته الندية وكلماته الساحرة التي بدأت بها المقال فهي حقا تفوح شذى يعطر الوجدان فيزداد الوجدان أناقة. إنه سليل الأسرة المغربية والعمرابية مبارك صالح المغربي الذي ولد في معقل العمراب والمغاربة بحي الموردة أمدرمان في عام تضاربت فيه الآراء ما بين ١٩٢٨م و١٩٣٠م. حي يضج بالمبدعين من شعراء وملحنين وأدباء وساسة كان لهم دور عظيم في تاريخ السودان أمثال عبد المنعم عبد الحي والدرديري محمد عثمان ومعاوية محمد نور وعصفور السودان إبراهيم عبدالجيل وشقيقه التوم عبد الجليل والقائمة تطول. ومبارك المغربي خرج من هذا الحي، كتب الشعر العربي بكل تفاصيله العروضية وزحافته وعلله بلغة رصينة وعذبة وسلسة أكدت علو كعبه وتمكنه من الشعر.
وفي جلسة ضمته بالشاعر الحقيبي الفذ عبيد عبد الرحمن
وقد كان المغربي معجبا بشعره غاية الاعجاب وفي تلك الجلسة قرأ له مبارك المغربي أبيات من قصيدة كانت منشورة في احدى مجلات ذلك الزمن بعنوان: (رجعة الهوي) فكان مطلعها:
نايت فعادني الوجد
وقرح جفني السهد
كانت هذه القصيدة نقطة تحول كبيرة في حياة مبارك المغربي عندما أعجبت القصيدة الشاعر عبيد عبد الرحمن الذي راهن على نجاحه إن كتب للأغنية السودانية. اختمرت الفكرة في ذهن المغربي فجادت قريحته بأول قصيدة تغنت له وهي أغنية (الباسم الفتان أحييت خيالي) في أربعينيات القرن الماضي والتي جارى فيها أستاذه عبيد عبد الرحمن في أغنية (الشال منام عيني وفؤادي جارحو) التي تغنى بها في بادئ الأمر إبراهيم عبد الجليل ومن ثم شدا بها عثمان الشفيع وبعده تفجرت أغنياته شلالا رويا روى بها عدد من مطربي الأغنية الوترية فكانت مرت الأيام وياملاكي التي تغنى بها ابن أخته عبد الدافع عثمان فاتن الجزيرة التي غناها الخير عثمان ثم انداحت أغنياته فكانت قمة جمالها على حنجرة رمضان زايد عندما شدا بأغنية (ليتني زهر) من ألحان الفنان عثمان المو وقد بلغت الأغنية قمة وطنيتها عندما تغنى له الطيب عبدالله بأرض الحبيب:
يا أرض الحبيب كم لي فيك غرام
هابي علي طيب من ذكراك دوام
إلى أن يصل
يامهد الجمال ما حبيت سواك
أيه بحر الشمال وأنت النيل حداك. ولا ننسى حب الأديم التي صدح بها ابن البادية: ما عشقت لجمالك انت آية من الجمال
وقد بلغت الأغنية عنده سموها وعلوها حينما زادها ثلاثي العاصمة بريقا ولمعانا
بدر سامي علاه والمدونة باسم فريد الحسن وتغنى بها الثلاثي قبل أن يصبحوا ثنائي
وتحيرت أغنيته عندما صدح له سيد خليفة بأغنية حيرة قلب فتنة الأنظار قلبك فيك أحتار
هكذا قادته الأقدار بلقائه بالشاعر عبيد عبد الرحمن أن يكون شاعرا غنائيا وأن يكون أول رئيس لاتحاد شعرائها حتى وفاته.
ولعل إلتحاق مبارك المغربي بمصلحة البريد والبرق قد أضافت له الكثير لأنه زامل فيها عدد من الشعراء أمثال مصطفى سند وعبد الله النجيب وابراهيم الرشيد ومصطفى عبد الرحيم وغيرهم من مبدعي الأغنية السودانية ولكنه لم يستمر كثيرا في وظيفته تلك حيث إلتحق بمصلحة السجون وتخرج منها ضابطا في عام ١٩٥١م وغادرها بإحالته للمعاش قبل أن يستكمل سنينه.
حاول المغربي أن يستكمل تعليمه الأكاديمي الذي وقف عنه بنيله الشهادة الوسطي التي عين بها موظفا بمصلحة البريد والبرق وفعلا نجح في ذلك فدرس القانون وأصبح قاضيا بالدرجة الأولى ولكن أضطر أن يترك القضاء بعد أن عينه الرئيس جعفر نميري رئيسا للمجلس الأعلى للآداب والفنون وذلك في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي حتي وفاته في مطلع الثمانينيات. وقد ترك المغربي عدد من الدواوين منها عصارة قلب وألحان الكروان ومع الأصدقاء. ومن أناشيدي وديوان عاشق النيل. ولعل تسميته للديوان الأخير عاشق النيل تدل على حبه للنيل لأنه ولد على شاطئيه وذكره كثيرا في شعره. وقصته مع النيل عحيبة جدير بنا أن نذكرها في هذا المقال كما ذكرها ميرغني حسن في كتابه شخصيات من الموردة والتي نقلها عنه الاستاذ معاوية حسن يس في كتابه تاريخ الغناء والموسيقى في السودان من عادات أهل السودان المقيمين على شاطيء النيل عندما تكمل المرأة أربعينها من الولادة يذهبون بها وبمولودها إلى البحر أو النيل لكي تغسل وجهها ووجه مولودها تبركا بالماء وعندما ذهبت والدة مبارك المغربي وأهلها به لممارسة هذه العادة وبعد أن اغتسلت هي وابنها تركته مع والدتها التي أصابها الخرف وضعف الذاكرة وما كان من والدتها (جدته) إلا أن تركته على شاطئ النيل وعندما افتقدته والدته سألت جدته قالت لها: (خليتو في البحر). وعندما رجعوا إليه وجدوا المولود يبكي بأعلى صوته ولكنه لم يصب بأذى وعندما علم مبارك المغربي بهذه القصة فيما بعد إزداد وفاء وحبا للنيل. ولكن للأسف النيل لم يبادله حبا بحب وذلك عندما ابتلع في جوفه ابنه (ياسر) وهو في ريعان شبابه وكان يتأهب لنيل الشهادة السودانية. هذه الحادثة أحدثت في نفسه شرخا عظيما وأشعلت اللوعة والشجن وجعلته يدون بحبر دمه قصيدته الأخيرة يرثي فيها ابنه ونفسه وفعلا لم يكمل ابنه أربعينه بعد وفاته حتى لحق به والده فزاد الحزن في أسرته ومعجبي شعره وأهل الموردة والشعب السوداني قاطبة.
مصابي جل عن وصف المصاب
وعز علي البكاء والانتحاب
فقد أدمي فؤادي منذ أودي بأحلامي وآمالي العذاب
وقيل الصبر خير وقلت صبري
علي غدر العوادي كان دابي
لكن هد من عزمي افتقادي
دليلي وهو في شرخ الشباب
لقد أعددته ليكون عوني
ودرعي في مجابهة الصعاب
دعاه النيل دعوة مستهام به
فطواه في أزهي إهاب
فما للنيل وهو رفيق عمري
سقاني بعد ري ماس صاب
حماني موجه وأنا صغير
وعز عليه ساعتها اصطحابي
حفظت له الوفاء فكم تغنى
به شعري بأنغامي الطراب
فكيف به يعود اليوم جهما
فيخفي مهجتي بين العباب
ويا دنيا المكاره لا تبالي
فقد غال الردى أوفى صحابي
ألا فلتفعلي ماشئت إني فقدت بفقده أغلى رغابي
وقفت عليه آمالي فضاعت
ضياع الريح في القفر اليباب
حبيبي كيف تمضي لم تودع
أباك ولم يحن وقت الذهاب
وحقك لن يطيب لدي عيش
وقد أمسيت في دنيا اغتراب
وما طعم الحياة وأنت ثاو
بكل جوارحي تحت التراب
وداعا يا نجي الروح
حتي نراك هناك ما بين الروابي