عبد الغفار عبد الرزاق المبارك .. أسطورة الوثائق السودانية

عبد الغفار عبد الرزاق المبارك .. أسطورة الوثائق السودانية
بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظ
حقا ما أعظمه من شخص يستحق كل ذكر حسن وبل تكريم له لما قام به طوال خمسون عاما قضاها فقط في حقل صعب الإحاطة به. بأمدرمان وفي العام 1948م أتى للدنيا محمولا على أكف الدعة والراحة لأسرة قدمت للسودان كل خير،
فجده لأبيه من ميسوري السودان في سنوات العقد الأول من القرن الماضي. وهو رجل المكارم الذي بذل ماله لتشييد أول مسجد بأمدرمان قبل المسجد الكبير فكان أن سمي عليه مسجد (عبد الغفار).
خلال سنوات البعث الوطني تأسيسا لجمعيتي الاتحاد السوداني واللواء الأبيض، كان أجداده الاثنين لأبيه وأمه من أعضاء الجمعيتين، ومن داعميها بالمال.
اهتمت أسرته بالتعليم منذ باكر سنوات العهد الاستعماري، فكان والده من نوابغ الطلاب الذين دلفوا لكلية كتشنر الطبية في بداية العام 1942م، فتخرج طبيبا ووصل حتى مديرا لمستشفى الخرطوم في العام 1968م.
أسرة كهذه كانت ذات دفع لشخصه ليصبح أحد رموزنا الباسقة في مجال الوثائق والمعلومات.
بالمدرسة النموذجية الأولية بأمدرمان بدأت دراسته لعام واحد فقط ومنها انتقل مع والده لمدينة الأبيض التي عمل بها لخمس سنوات كانت تجربة أخرى لشخصه في كردفان التي أحبها وبل حافظ على علاقاته بجيران منزلهم بالحي البريطاني وزملاء دراسته بالمدرسة الأولية والسنة الأولى بالمدرسة المتوسطة وفي هذا كان ورغم صغير سنه آنذاك مستذكرا جيران أهله وزملائه حتى قبل وفاته في سبتمبر من العام 2021م.
عاد والده للعمل بمستشفيات العاصمة الخرطوم فدرس بحي العرب المتوسطة مرحلة دراسية كانت انطلاقته نحو القراءة وتصنيف الصحف التي يضج بها منزلهم لوجود السياسيين والمفكرين والشعراء من أصدقاء والده الطبيب المعروف وخاله الزعيم السياسي الطيب محمد خير أحد الأركان الركينة للحزب الوطني الاتحادي منذ تأسيسه في الأربعينيات
بتفوق واضح. دلف أسطورتنا نحو مدرسة الخرطوم القديمة جوار منزلهم الحكومي الجديد المخصص لوالده المدير الطبي لمستشفى الخرطوم، فبدأت مرحلة جديدة من الاهتمام بالوثائق والمعلومات التي ملكت عليه حياته رغم صغر سنه آنذاك.
يقول المرحوم عبد الغفار في مؤانسة جمعتني معه بحضور صديقه الذي لم يفارقه لسنوات استطالت العميد شرطة محمد أبو العزائم إنه كان أثناء دراسته الثانوية ذو اهتمام واحد فقط وهو القراءة وتصنيف الوثائق، مما جعله يحتفظ بمكتبة وثائقية تعتبر ضخمة بمقاييس صغر سنه آنذاك. وهو ما أكده عدد من زملائه بالمدرسة الثانوية مع تفوقه الواضح أكاديميا.
كانت نتيجة الشهادة الثانوية لشخصه كفيلة لدخوله الجامعة في العام 1969م، ففضل التفرغ لمشروعه الضخم الذي وصل قبل وفاته الفاجعة لجمع وثائق ومعلومات مصنفة بعناية لا توجد حتى في دار الوثائق التي ومن تكرار وجوده بها وصل لمرحلة أسطورية في معرفة أين توجد معلومة محددة. وإليكم هذه الواقعة التي توضح اعجازا بشريا خالصا اسمه الوثائقي عبد الغفار عبد الرزاق المبارك. ففي العام 2010م ذكر أحد الأكاديميين من أساتذة جامعة الخرطوم في حوار تلفزيوني أن من ضمن مقررات مؤتمر المائدة المستديرة في مارس 1965 إجراء الانتخابات بصورة جزئية في جنوب السودان. وهو ما ينافي الحقيقة. فإنبرى الأستاذ عبد الغفار ليكتب مقالا بصحيفة آخر لحظة داحضا ما قاله الأكاديمي الذي طرح نفسه أيامها صاحب وثائق التاريخ الخاص بجنوب السودان وحده دون سواه.
جمع حينها عبد الغفار أوراقا ومقالات من الصحف ليس من دار الوثائق بل من مكتبته العامرة تدحض ما قاله الأكاديمي، وبل زاد على ذلك ما قالته الصحف وشخصيات سياسية حول الأمر مما جعل مقاله مرجعا للأوضاع السياسية بجنوب السودان أثناء وبعد مؤتمر المائدة المستديرة.
قصة أخرى توضح ضجره وغضبه من معلومات خاطئة حول قضايا يعلمها ويمتلك وثائقها وتتلخص في حديث أحد القادة الحكوميين حول العلاقات السودانية البريطانية فكان أن ذكر هذا القيادي أن التعاون الاقتصادي بين الحكومتين السودانية والبريطانية وصل في العام 1982م لمرحلة متقدمة بثلاثة اتفاقيات اقتصادية.
ليومين ظل المرحوم عبد الغفار يجمع في الوثائق والمعلومات لدحض حديث القيادي، وحين اكتملت علم الناس دررا من المعلومات حول العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدولتين مع دحض حديث القيادي الذي لم يكن له أساسا من الصحة.
تتكاثر حالات تصحيحه للكثير من المعلومات الخاطئة التي كانت تطفح بها الصحف يوميا.
تفرغ الأسطوري عبد الغفار طوال حياته للوثائق والمعلومات ووصل لمرحلة أن خصص دكانا في داره بحي العرب للصحف القديمة وقصاصات المعلومات مع تفرغه التام لها وفي هذا كان من اعتياديات حياته أن يظل بمنزله لأيام دون الخروج لأي موقع وهو منكب على الصحف والكتب والكتابة وتصنيف الوثائق.
لعامين فقط في حياته الممتدة عمل بموقع حكومي وهو جهاز الأمن القومي فكان أن تقدم باستقالته منه بعد استشهاد عمه سيد المبارك ببيت الضيافة في أحداث يوليو 1971م وتفرغ فقط للعمل بمطبعة يملكها والده مع شغفه بالوثائق والمعلومات.
داخل عشقه للهلال وتاريخه تمكن من كتابة دقائق المعلومات عن النادي، وهي المعلومات التي سطا عليها آخرون ونسبوها لأنفسهم، وما دروا أن جمعها وتصنيفها والحصول عليها كان مشقة لشخصه وبل صرفا ماليا له.
عاش عبد الغفار حياة يسر ودعة منذ طفولته وحتى مماته. فهو وأسرته ولكرمهم وبذلهم للناس مالا وبشاشة ومساعدة لأصحاب الحاجات معلومون للناس، فظل طوال حياته في يسر حال، فهم منذ بدايات القرن الماضي أصحاب مال وفير وممتلكات بعرق جدهم وعملهم. أسسوها فظل أمينا عليها منميا لها، مما أوصله لحالة التفرغ لمشروعه الناجح وثائقيا.
تمتع عبد الغفار بذاكرة فولاذية مكنته من الحديث حول أي أمر بذكر اليوم والشهر والسنة. واليوم إن كان جمعة أو ثلاثاء في اعجاز لا يحدث ولم يحدث وفق تقديري لأي شخص آخر.
أحب عبد الغفار السودان وكان يقول قولة واحدة يرددها كثيرا: (السياسيون لا أخلاق لهم وسيضيع السودان بسببهم).
يقول لي العميد شرطة محمد أبو العزائم أن المرحوم إن كان حيا أثناء اندلاع الحرب لمات في اليوم الأول لها، لمحبته للسلام والتوافق. ويقيني أنه وبنظرته الثاقبة كان يعلم قبل وفاته في سبتمبر من العام 2021م أن السودان لن يكون كما كان وصدق حدسه.
شخص مثل هذا يستحق كل ذكر حسن وكل تكريم لشخصه مع دعم مشروعه الضخم الذي ما زال موجودا ينتظر منا وابنه سيد المبارك العمل ليظهر للعالم حتي يرقد في مرقده الأبدي هانئا مرتاحا.