إبراهيم شقلاوي يكتب: المكتبات والذاكرة السودانية

وجه الحقيقة

إبراهيم شقلاوي

 

المكتبات والذاكرة السودانية

في خريف 2017، شاركت في المؤتمر الثامن والعشرين للاتحاد العربي للمكتبات والمعلومات (أعلم) الذي انعقد بالقاهرة، حيث عكست تلك التجربة أهمية التعاون العربي في دعم قضايا الثقافة والمكتبات.

واليوم، في ظل الحرب المستمرة منذ أبريل 2023، هناك سؤال : إلى أي مدى يمكن أن يستجيب الأشقاء العرب والداعمون الدوليون لنداء السودان، خاصة بعد ما طال الذاكرة الوطنية من دمار ونهب لمكتبات عريقة؟ تتضاعف أهمية هذا السؤال في ضوء الدور المرتقب للجمعية السودانية للمكتبات والمعلومات، التي يقع على عاتقها قيادة الجهود لإعادة التأهيل والتوعية، مستندة إلى خبراتها السابقة وشراكاتها الإقليمية.

كانت المكتبات السودانية، على مدار تاريخها الطويل، صرحًا معرفيًا يعبّر عن الذاكرة الثقافية للأمة، كما كانت مراكز إشعاع فكري وثقافي بما تقدمه من مساهمات جادة في دعم النشاط الثقافي. لكنها اليوم بسبب الحرب، أصبحت شاهدة على السقوط الصامت للمعرفة. تمزقت الكتب، سُرقت المخطوطات، وتحولت القاعات إلى أطلال مهجورة.

لم تفرّق الحرب بين المواقع العسكرية ومراكز الثقافة ودور الإعلام، لذلك يبدو أن استهداف المكتبات، كان جزءًا من استراتيجية ممنهجة اتبعتها المليشيا لتصفية الوعي الوطني وتفكيك البنية المعرفية للدولة السودانية.

الاستهداف الممنهج للمكتبات، كما تشير التجارب التاريخية في العراق وسوريا، لا يعد خسارة ثقافية عرضية، بل هو أداة لإعادة تشكيل الوعي وطمس الهوية الوطنية. في هذه اللحظة من تاريخ السودان، تواجه الأمة خطرًا حقيقيًا بفقدان ذاكرة الأمة، التي كانت طيلة عقود حاضنة للمعرفة والوعي الثقافي. إن تدمير المكتبات السودانية هو تدمير لمرآة الوطن التي تعكس تطوره العلمي والفكري والسياسي.

ورغم هذه التحديات، فإننا نتطلع إلى دعوات المهتمين بالشأن الثقافي ومنظمات المجتمع المدني للمساهمة في معالجة الأزمة وصيانة المكتبات المتضررة. وفي هذا السياق، تبرز الجمعية السودانية للمكتبات والمعلومات في مقدمة الجهود المرتقبة، نظرًا لدورها الحيوي في مثل هذه المبادرات ، وحملات التوعية.

هذا بجانب إمكانية إطلاقها للنداءات الهادفة إلى إعادة تأهيل المكتبات المتضررة، فضلًا عن إمكانية حشدها للدعم المحلي والدولي من خلال مذكرات تفاهم سبق أن أعلنت عنها مع منظمات ثقافية وإنسانية في محيطانا الدولي والإقليمي.

هذه الدعوة تتطلب استنهاض الشراكات مع منظمات العمل الطوعي والإنساني، فضلاً عن استقطاب المانحين والداعمين الدوليين في إطار يضمن الاستدامة وحماية حقوق المعرفة.

لكن وسط هذه التحركات المدنية، يظل غياب المؤسسات الرسمية، ولا سيما وزارة الثقافة والإعلام، هو المعضلة الكبرى. فحتى اللحظة لم تقدم الحكومة السودانية خطة واضحة لإعادة تأهيل المكتبات أو حماية ما تبقى منها. هذا الفراغ المقلق يعكس بوضوح أزمة الدولة المركزية، ويزيد العبء على المبادرات الأهلية التي تعاني من محدودية الموارد.

إعادة بناء المكتبات السودانية ينبغي أن تكون جزءًا أساسيًا من استراتيجية وطنية لإعادة بناء الدولة والمجتمع، وليست مجرد مشروع ثقافي معزول. إن الثقافة هي المدخل الأساسي لتحقيق السلام المستدام والمصالحة الوطنية، كما أثبتت تجارب الدول التي عانت من النزاعات والحروب.

على الرغم من التحديات، فإن الأزمة الراهنة تمثل فرصة لإعادة هيكلة النظام المكتبي السوداني، وتحويله إلى نموذج يواكب العصر الرقمي ويعزز من اللامركزية في إدارة المعرفة. يمكن في ظل هذا التحول، استغلال التكنولوجيا الرقمية في حفظ الأرشيف الوطني وجعل المعرفة أكثر وصولًا لجميع فئات المجتمع، خاصة عبر الشراكات مع المؤسسات الدولية المتخصصة في الأرشفة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات.

تجارب الدول التي مرّت بتحديات مشابهة تُعد دروسًا مهمة يمكن للسودان الاستفادة منها. فعلى سبيل المثال، بعد الحرب الأهلية في لبنان، استطاعت الدولة بالتعاون مع فرنسا والمنظمات الثقافية إعادة إحياء المكتبة الوطنية، التي أصبحت معلمًا ثقافيًا يعكس الهوية الوطنية بعد الانقسام.

كذلك في رواندا بعد الإبادة الجماعية، حيث تم إنشاء مكتبات صغيرة في القرى والمراكز المجتمعية، والتي كانت بمثابة منابر للمصالحة وبناء الثقة وتعزيز السلام، بدعم من المبادرات الدولية والمحلية.

تُظهر هذه التجارب أن إعادة بناء المكتبات ليست مجرد نشاط ثقافي، بل هي جزء من استراتيجية شاملة لإعادة بناء الإنسان وإحياء الهوية الوطنية.

فإن المكتبات تعيد السيطرة على الذاكرة والمستقبل. وبالتالي، فإن السودان يحتاج إلى التعاطي مع قضية المكتبات باعتبارها أولوية وطنية في مسار إعادة الإعمار.

ما يحدث في السودان اليوم بحسب #وجه_الحقيقة ليس فقط أزمة إنسانية أو حربا وجودية، بل هو تهديد مباشر لذاكرة الأمة وهويتها الثقافية. فإن تدمير المعرفة يقوّض المستقبل. إن إعادة المكتبات السودانية إلى مكانتها الأولى ليست رفاهية ثقافية، بل ضرورة وطنية لإعادة بناء معنى الوطن وصياغة مشروع وطني جامع ينهض بالبلاد ويعيد مجد الأمة.

دمتم بخير وعافية.
الإثنين 29 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com