صحو الأشواق المنسية
ولألوان كلمة
حسين خوجلي
صحو الأشواق المنسية
1
قديماً كانت قضية أهل السودان التنمية والرفاه وتطوير خدمات الصحة والتعليم فعندما تنزلت عليهم النكبة صار همهم الوحيد هو التحرير وإبعاد الخوف وإشاعة الطمأنينة ومثل هذه المراحل تبعث في النفوس الكثير من الأحزان وقديماً كانت العرب تقول (بقدر الهمم تكون الهموم).
2
من العبارات التي ظللت أتأملها طويلاً والتي هي أدْخل في نظريات السكن والعمران قضية التجاور بأن يسكن أهل الدم والقبيلة الواحد في أمكنة متلاصقة وقد عدها الإمام الغزالي من سالب السلوك البشري، وقد صدق الرجل فإن الدولة المدنية المعاصرة هي التي تتيح السكن والجوار لإفراد مختلفين ثقافة وعنصراً ومهنة حتى يتم التلاقح لبناء مجتمع متآزر ومتداخل بعيداً عن الإثنيات والعرقيات والإقليميات وهذه لعمري هي الطريقة المُثلى في التمازج فمن المحزن أن تجد في كثير من مدن السودان إلى يوم الناس هذا من يقول لك أن هذا (فريق النوبة) وهذه (حارة التعاشية) وهذا (حي العمراب) وهذا (فريق الدناقلة) وهلم جرا فبالله عليكم كيف يتداخل الناس ويتساكنوا ليصبحوا أمة واحدة إذا كنا نستبعد تداخل الأخيار بتداخل الأغيار وتأملوا معي عبارة الإمام حين قال: كتب عمر إلى الولاة: مروا الأقارب أن (يتزاوروا) ولا (يتجاوروا)، وفسره الغزالي بأن التجاور يورث التزاحم على الحقوق وربما يورث الوحشة وقطيعة الرحم.
3
عندما كان الزمان أخضر ويرفل السودانيون في الأماني السندسية كانوا لا يصدقون إن لزم أحد أحبابهم السرير الأبيض بإحدي المستشفيات الكبيرة، حيث تصبح الزيارة برنامجاً للتنزه والخروج وكثر المألوف (طق) فيوم الزيارة هذا ترى العجب العجاب في حدائق المستشفى أعمدة الطعام وترامس الشاي والقهوة (والشاي الصاموطي) والزلابية بلونها الذهبي العجيب وفي بعض الأحيان تصدمك روائح الشواء (والمفاريك)، أما المريض المسكين فإن كل حظه من (الرحلة) أو بالأحرى هذه الرحلات الإرهاق والأسئلة المتكررة المرهقة فالمسكين الذي لم يمت مرضاً يموت ضنكاً وضجراً ويبدو لي أن (حمى الضنك) هي من حمى الضجر هذا ،ومن لطيف ما قرأته في ذوق وإتكيت الزيارة مثل ذلك الشيخ المتصوف الذي عاده مجموعة من (الحيران) في مرضه ومكثوا معه طويلاً حتى أضجروه فلما أرادوا الخروج قالوا:
يا مولانا أدع لنا.
فرفع يديه وقال:
اللهم علمنا آداب العيادة!
4
وفي أفضال وفضائل العلم والأدب أنه في حد ذاته عزوة وأهلٌ في تمام أمره إنجاب ومفارقة العلم بشواغل الدنيا (عقم) ليس ممنوعاً على العلماء الإنشغال بالعلم والولد ولكن الإستغراق في هذا يقلل جهد التعلم والتعرف على مناقبه ومآثره وأشواقه وقد قيل في هذا الباب أن شيخاً نصح شاباً فقال:
يا بني من لم يكن الأدب والعلم أحب إليه من الأهل والولد لم يُنجب أي (لم يصبح نجيبً)
ويضيف على هذا المعني الإمام الشافعي رضي الله عنه شعراً
لا يُدرِكُ الحِكمَةَ مَن عُمرُهُ
يَكدَحُ في مَصلَحَةِ الأَهلِ
وَلا يَنالُ العِلمَ إِلّا فَتىً
خالٍ مِنَ الأَفكارِ وَالشُغلِ
لَو أَنَّ لُقمانَ الحَكيمَ الَّذي
سارَت بِهِ الرُكبانُ بِالفَضلِ
بُلي بِفَقرٍ وَعِيالٍ لَما
فَرَّقَ بَينَ التِبنِ وَالبَقلِ
5
وأقيم روشتة صرفتها قريباً كانت قول أحد الأطباء العرب القدامى: العاقل يترك ما يُحب ليستغني عن العلاج بما يكره.
6
من النصائح التي يتوجب أن نسديها للأسر السودانية هذا الرهق الشديد والتكلف واصطناع الأشياء والمواقف والطعام إذا علموا أن هنالك ضيف حدثهم بزيارة فتكاليف الزيارة عندنا في السوان يرهق رب الأسرة والزوجة والأبناء ويصبح عبئاً تعلن له حالة الطوارئ وهذه نصيحة من المأثورات (لا تتكلفوا للضيف فتبغضوه).
7
مما كان يدلنا عليه أساتذنا في الأدب واللغة في المدارس الأوسى والثانوية أشعار الشافعي وأقوال الحسن البصري ومن أقوال الاخيلر ونصائحه ذالك الرجل التي أتاه يستشيره في تزويج إبنته فرد عليه عليه رضي الله عنه: زوجها من تقي فإنه إن احبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها.
وفي قول آخر للإمام جهد البلاء أربعة: كثرة العيال وقلة المال وجار السوء وزوجة خائنة.
8
وفي حق الوفاء للمرة الغائبة بالرحيل الأبدي ما رواه الأثر عن القطب مالك بن دينار الذي سألوه بعد وفاة زوجته التي كان يحبها كثيراً وتحترمه أكثر وقيل انها كانت من تلامذته النجباء وما اخطر الفقيه الذي يتزوج من تلميزته وما أخطر من التلميذه التي تتزوج من شيخها. قيل لمالك بن دينار حين ماتت زوجته: لو تزوجت؟ فقال : لو استطعت لطلقت نفسي.
9
ومن التعريفات اللطيفة في امر الزواج والنساء (بيد أنها غير ملزمة) عندما سأل أحدهم مجنوناً عمن يتزوجها فقال: النساء ثلاثة: واحدة لك وواحدة عليك وواحدة لك وعليك، أما التي لك فهي البكر قبلها وحبها لك ولا تعرف أحداً غيرك، وأما التي عليك فالمتزوجة ذات ولد تأكل مالك وتبكي على الزوج الأول، وأما التي لك وعليك فالمتزوجة التي لا ولد لها فإن كنت خيراً لها من الأول فهي لك وإلا فعليك.
10
ولأهل الذوق والشاعرية والأدب فراسة لا يعلمها الدهماء وغليظي الطبع وقليلي العلم والأدب ومما جاء في هذا الباب وكنا نحفظها على ظهر قلب حكاية أبي العلاء المعري الذي كان رغم شاعريته الضخمة لا يرى أن هنالك شاعراً يفوق المتنبي وكان حين يحكي عن الشعراء يذكرهم بأسماءهم وحينما يقول (قال الشاعر) يقصد المتنبي كأن ليس هناك شعر غير شعر أبي الطيب وليس هنالك شاعر يماثله والسردية الشهيرة تقول:
سافر أبو العلاء المعري في رحلة مثيرة ماتعة من الشام لبغداد التي كانت موطن الحضارة والعلم والأدب، وحضر مجلساً أدبياً راقياً في منزل الشريف المرتضى، وفي ثنايا حديث هذا المنتدى انتقص الشريف من شاعرية المتنبي وكان شيخ المعرة يجل أبا الطيب ويستكثر على الشريف انتقاده فقال من فوره: يكفيه أي المتنبي أنه القائل:
لكِ يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهلُ
فاحمر وجه المرتضى وتغيظ وصاح بغلمانه أن أخرجوا هذا الأعمى اللئيم وحين استفسر الحضور عن سبب هذا الانزعاج المفاجئ من بيت شعرٍ ليس فيه ما يريب أجابهم المرتضى قائلاً: لقد كان هذا الأعمى يقصد قول المتنبي في نفس القصيدة:
إذا أتتك مذمتي من ناقصٍ
فهي الشهادة لي بأني كاملُ
فتعجب القوم من ترميز أبي العلاء ومن فهم وذكاء المرتضى.