إبراهيم شقلاوي يكتب: البرلمان الغائب ومأزق الوصاية الدولية

وجه الحقيقة

إبراهيم شقلاوي

البرلمان الغائب ومأزق الوصاية الدولية

لاشك أننا جميعا متفقون على أن البرلمان أو المجلس الوطني هو التعبير الأوضح عن الإرادة الوطنية المنظمة. فحين يغيب، يغيب صوت الشعب و تنكشف الدولة أمام احتمالات الوصاية، وتُفتح الأبواب أمام الإملاءات الخارجية التي تسعى لإعادة تشكيل القرار الوطني وفق مقاييسها الخاصة. في هذا المقال دعونا نفتح هذا الملف.

لقد كان قيام البرلمان الإنتقالي أحد أبرز استحقاقات الوثيقة الدستورية منذ نسختها الأولى في أغسطس 2019، غير أن السنوات انقضت والمجلس ظلّ وعدًا مؤجلاً. حتى بعد تعديل الوثيقة في عام 2025، وتشكيل لجنة سياسية برئاسة الفريق أول شمس الدين كباشي وعضوية الفريق أول ياسر العطا وعبد الله يحيى، لم يرَ المشروع طريقه إلى الواقع.

اللجنة التي بدأت لقاءاتها مع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والفاعلين تبخّرت فجأة، دون بيان ختامي أو توضيح لمسار أعمالها.

ومع أن الوثيقة المعدلة حدّدت بدقة تركيبة البرلمان وضمان تمثيل أطراف العملية السلمية والنساء، وحددت سقف العضوية بثلاثمائة عضو، إلا أن الواقع ظلّ أسير التوازنات، حيث استمر مجلس السيادة ومجلس الوزراء في ممارسة مهام السلطة التشريعية المؤقتة، بينما تُدار الدولة بالأغلبية البسيطة في غياب الرقابة والمساءلة. وهكذا أصبح غياب البرلمان مأزقًا مركبًا: مأزقًا في هندسة الحكم الداخلي، ومأزقًا في مواجهة الضغوط الخارجية التي وجدت في هذا الفراغ مدخلاً لفرض وصايتها الناعمة.

إن وجود برلمان فعّال لا يمثل مجرد واجب دستوري، بل ضمانة سياسية واستراتيجية لتحصين القرار الوطني. فكل خطوة متعلقة بالتفاوض أو بإنهاء الحرب، وكل قرار سيادي يمس مصير البلاد، يحتاج إلى مظلة شرعية جامعة تحمي صانعي القرار من الابتزاز الإقليمي والدولي.

لذلك بجب أن نعلم أن البرلمان ليس خصمًا على السلطة التنفيذية، بل درعها الدستوري ومأمنها، وهو الجدار الذي تتكئ عليه في وجه الضغوط والابتزاز الخارجي حين تكون الكلمة الأخيرة للوطن لا للوسيط.

التجارب المقارنة تمنح الدرس الأوضح: فبلدان مثل مصر بعد 2013 وإثيوبيا خلال أزمتها الداخلية والجزائر في فترات التحول، استطاعت أن تتحصن ضد الابتزاز الدولي عبر برلمانات مؤقتة أو معينة، منحت القيادة غطاءً شرعياً لاتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بالحرب والسلام والسيادة.

حتى في فترات الاضطراب، أدركت تلك الدول أن وجود مؤسسة تشريعية ولو انتقالية تعبر عن رأي الشعب أفضل ألف مرة من فراغ دستوري يُستثمره الخارج في تمرير اطماعه من خلال اجهزة مهما علت كفاءتها ، فهي قاصرة من أن تتخذ قرارات مصيرية متعلقة بالأمن القومي مثلا.

ومن هنا تتصاعد الأسئلة في المشهد السوداني: لماذا تأخر قيام البرلمان في هذا التوقيت الحرج بالذات؟ وهل ثمة ضغوط خارجية أو حسابات داخلية تحول دون ميلاده؟ ولماذا تظل لجان الترتيب تُعلن ثم تختفي بلا أثر؟ أسئلة يطرحها الإعلام و النخب السياسية بقدر ما تهمس بها الجماهير، لأن الجميع يدرك أن غياب البرلمان يعني غياب اللسان الوطني الذي يُفترض أن ينطق باسم الشعب لا بالنيابة عنه.

في هذا السياق، يظهر الفرق بين من هم داخل السودان ومن هم خارجه: الشعب “الاسطنبولي ،والشعب القاهري” و الشعب داخل البلاد الذي يعيش الحرب بكل مرارتها ومخازيها ، ويريد وقفها لأنه بلغ حدّ المعاناة اليومية، بينما أولئك الذين يتحدثون باسمه من الفنادق والحانات أو غيرها من المنافي لا يشعرون بلظاها، ولا يهمهم طول أمدها، فمصالحهم منفصلة عن الواقع اليومي.

لذلك البرلمان هو الأداة الوحيدة لتنظيم هذا الصوت الداخلي، ورفع الحرج عن القيادة، بحيث لا يتم ابتزاز القيادة أو يُنسب قرار الحرب أو السلام إلى طرف بعينه، بل يصبح قرارًا جماعيًا شرعيًا يمثل كل السودانيين.

لقد أدّى تأخر قيام البرلمان إلى انكشاف الدولة أمام معادلات التدويل، حيث تُدار ملفات الحرب والسلام من خارج الأطر المؤسسية، وتُتداول القرارات الكبرى في ظل غياب جهة تُحاسِب وتُقوِّم وتُشرّع. وهنا تتجلى المفارقة المؤلمة: أن الدولة التي تصمد ميدانيًا في وجه المليشيا ، قد تجد نفسها مكشوفة سياسيًا أمام طاولات التفاوض، لأن مؤسساتها لم تُستكمل بعد.
يكمن المأزق اليوم في الفراغ الناتج عن غياب السلطة التشريعية؛ فالسّيادة ليست شعارًا يُرفع، بل منظومة تُؤسَّس وتُصان. إنّ الوصاية تتسلل من هشاشة الداخل حين تغيب الشرعية الشعبية، لذلك فإن بناء البرلمان ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورةً استراتيجيةً ومصيريةً لاستعادة التوازن بين الدولة ومواطنيها، وبين الإرادة الوطنية وضغوط الوصاية الدولية.

بحسب #وجه_الحقيقة فإن قيام البرلمان اليوم لا يعني مجرد استكمال لبنية الحكم، بل يمثل تحولًا استراتيجيًا في دعم الصمود الوطني. وجوده سيعزز القرار الوطني، ويمنح التفاوض غطاءً مؤسسياً يضمن أن تُدار الحرب والسلم داخل العقل السوداني لا عبر الوكالات الدولية. كما أنه يتيح تحمل المسؤولية المشتركة في القرارات المصيرية، فيتحول القرار من عبء فردي إلى إرادة جماعية محصّنة بشرعية الدستور وارادة الشعب .

دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 12 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com