مأمون عوض أبوزيد .. الشاهد الصامت

مأمون عوض أبوزيد .. الشاهد الصامت

بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظ

هو أحد شخصيات القرن العشرين في السودان لما قام به من تنفيذ حقيقي لانقلاب مايو 1969م، ومشاركته الفاعلة في توطيد أركان مايو. ومن العجب أنه تم إبعاده في فترة شهدت وجود فاعلين جدد، ولفترة طويلة آثر الصمت وعدم البوح بأي أسرار حول أحداث كثيرة مرت عليه؛ بدء بتأسيس جهاز الأمن القومي، إلى أحداث يوليو 1971، إلى كيفية تأسيس الاتحاد الاشتراكي السوداني، إلى الطريقة التي تخلص بها نميري من صناع مايو. وقد كان أحد أعضاء المجلس العسكري الحاكم بعد انقلاب 25 مايو 1969م، والذي حمل فيما بعد اسم مجلس قيادة الثورة، وكان أصغر أعضائه سنًا. وشغل عدة مناصب خلال سنوات حكم نميري، فقد كان رئيسًا ومؤسسًا لجهاز الأمن القومي، وأول أمين عام للاتحاد الاشتراكي، وتقلد منصب وزير الحكم المحلي، ووزير الداخلية، ووزير الطاقة، ثم اختفى عن الأضواء ليعود في منصب استشاري لفترة قصيرة، واصل بعدها عزلته حتى قامت انتفاضة أبريل 1985م، فتمت محاكمته مع زملائه قادة انقلاب مايو، وأمضى فترة في السجن تنفيذًا للحكم الصادر في حقه، حتى أُطلق سراحه بعد انقلاب 30 يونيو 1989م.
كان يتمتع بقدر وافر من الثقافة والذكاء، وكان ميالاً للصمت والعمل خلف الأضواء بحكم خلفيته المهنية وتكوين شخصيته.
ذكر السيد محمد أحمد محجوب في كتابه “الديمقراطية في الميزان” أنه طلب من القائد العام للجيش تقريرًا قبيل انقلاب 25 مايو 1969م عن الوضع الأمني وما يشاع عن تحركات مريبة تحضيرًا لانقلاب عسكري، فأحال القائد العام الأمر للاستخبارات العسكرية، التي كان قائدها آنذاك متغيبًا في الخارج، فجاء الرد مطمئنًا نافياً وجود أي إرهاصات لذلك الانقلاب، وذكر محجوب أنه قد اتضح فيما بعد أن مدير الاستخبارات العسكرية لم يكن هو مصدر هذه المعلومات بسبب غيابه في الخارج، وكان المصدر هو مدير مكتبه الرائد مأمون عوض أبوزيد، الذي كان منغمسا في التدبير للانقلاب. ولو كان المحجوب قد عرف هذه الحقيقة في وقتها، كما قال، لربما تغيرت الأمور ولأمكن اتخاذ ما يلزم للحيلولة دون وقوع الانقلاب.
كان لمأمون عوض أبوزيد دور كبير وهام من وراء الستار في نجاح انقلاب 25 مايو 1969م بفضل ما قام به من تغطية وتمويه.
وأشار الكاتب المصري الراحل يوسف الشريف صراحة في كتابه “السودان وأهل السودان” إلى واقعة اختطاف الصحافي محمد مكي محمد صاحب جريدة “الناس”، حيث قامت جماعة فلسطينية بالتنسيق مع جهات سودانية بخطف محمد مكي من أمام مقهى في شارع الحمرا في بيروت في مطلع عام 1970، ثم نُقل بعد ذلك للسودان، حيث يقال إنه قضى تحت وطأة التعذيب. وكان مكي ناشطًا وفاعلاً في معارضة النظام المايوي. وحمل الأستاذ الشريف مأمون عوض أبوزيد وجهازه الأمني مسؤولية خطف وقتل محمد مكي، الذي كان هو نفسه شخصية مثيرة للجدل، وربما لذلك لم تجد قضيته تحمسًا لفتح ملفها بعد انتفاضة أبريل 1985م.
ولا شك أن هناك الكثير من الأحداث والوقائع، بخلاف واقعة محمد مكي، مثل محاكم الشجرة العسكرية الانتقامية التي أعقبت فشل انقلاب يوليو 1971م وغيرها، التي كانت تحتاج لإفادات مأمون بوصفه شاهدًا صادقًا على بعضها، ومشاركًا في صنع بعضها الآخر، لكنه التزم الصمت طوال الفترة التي أعقبت إطلاق سراحه من السجن وحتى رحيله، لتدفن معه أسراره في قبره. وكان زاهدًا فيما يبدو في تسجيل شهادته للتاريخ، ولكن لو اتضح أنه قد ترك وراءه مذكرات مكتوبة أو مسجلة وقام ورثته بنشرها، فإن القارئ سيجد نفسه أمام كنز ضخم من المعلومات، رغم أن هذه المعلومات لابد أن تكون، بطبيعة الحال، ذات درجات متفاوتة من الصدقية.
اختلف الناس كثيرًا حول مأمون عوض أبوزيد وشخصيته وأفعاله التي يحيط بها الغموض والتساؤلات، وأحبه بعض الناس وكرهه غيرهم، وخلّف الفرح في نفوس البعض، مثلما خلّف المرارة في نفوس آخرين، ولكنهم جميعًا لم يختلفوا قط حول طهارة يده.