صلاح ابن البادية .. ننساك انت بتتنسي …

صلاح ابن البادية .. ننساك انت بتتنسي …

بقلم: أمير أحمد حمد

قد يكون للإنسان نصيبٌ من اسمه، اسمٌ على مسمّى، يحمل صفةً من صفاته. صالح الجيلي محمد أبو قرون، صرخته الأولى في أم دوم، ونشأته وسنين صباه في أرض أجداده قرية أبو قرون. تربّى وهو يستنشق عبير الدوّاية وتهزّه دقّات الطبول في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم). مدح فصدح، وتلا فكأن يكون مزمارًا لدى مستمعيه. نشأ في بيئة كان يمكن أن يكون شيخًا للقرآن في خلوة جدّه أبو قرون صاحب الطريقة الصوفية، فتشبّع بالقصيد وذكر الله. ولكن إرادة الله هي الغالبة؛ تعلّق قلبه بالفن وشُعَبِه المختلفة بعد سماعه لعمالقة الحقيبة آنذاك، وزاد شغفه للفن فبدأ يغني في بادئ الأمر للمقرّبين إليه، خاصة حينما انتقل من قرية أبو قرون القريبة من الخرطوم، واستقرّ به المقام في أحد أحياء الخرطوم بحري، وهي شمبات مبعث الجمال التي خرج من أحشائها أساطين الفن أمثال أولاد شمبات وخضر بشير والنور حمد وغيرهم من المبدعين.

 

 

وجد صلاح بيئةً صالحة للفن، وكان يعزف له العود صديقه عبد العزيز عبد الله لعدم تمكّنه من تعلمه آنذاك. بدأ يغني أغنيات الحقيبة وأغنيات من سبقوه من الفنانين أمثال سيد خليفة ومحمد حسنين وإبراهيم عوض، والتي يجيد ترديدها، وكذلك أغنية “الأوصفوك” للفنان خضر بشير كلمات محمد بشير عتيق.
تقدّم لذلك البرنامج الشهير “حقيبة الفن”، ولكن صاحب البرنامج الشهير السيرة المبارك إبراهيم نصحه بالعدول عن ترديد أغنيات الحقيبة لأنها تحتاج إلى صوت قوي، والسير على نهج الأغنيات الحديثة، فكانت نصيحة صائبة.
بدأ ابن البادية يحفظ بعض الأغنيات بعد أن نال إعجاب مجالسيه في الجلسات الخاصة، وبدأ بترديد أغنية (خاتمي العاجب البنوت) و(غنيت الستات) و(عديلة ليه). فهذه الأغنيات أكّدت موهبته الصوتية وعذوبة صوته للدرجة التي جعلت الأديب الطيب صالح يسعى إليه ويسجّل له أغنيات في الإذاعة البريطانية القسم العربي.
دعته وزارة الاستعلامات، أي وزارة الإعلام آنذاك، متمثّلة في مندوب وزيرها بشير فوراوي، بالاشتراك في الحفل الشهري بالمسرح القومي بأمدرمان، ولكنه خشي أن يفتضح أمره وسط أسرته الدينية ويُذاع اسم الأسرة، وحتى يتحاشى ذلك الأمر اختار لنفسه اسمًا فنيًا وهو صلاح ابن البادية، وعُرف بهذا الاسم إلى انتقاله للرفيق الأعلى.
ومن أوائل الذين وقفوا إلى جانبه حتى استوى عوده فنيًا الشاعر إسماعيل خورشيد وعبد الله النجيب، فمدّوه ببعض كلماتهم، إلى جانب صديقه عبد العزيز عبد الله، وسعادة المقدم عوض محمود الذي منحه أغنية الإلهام (أنت يا غرامي) والتي سُجّلت للإذاعة بالآلات النحاسية.
ولعل من أهم المحطات المهمة في حياة ابن البادية تعاونه الكبير، أو قل ثنائيته الكبيرة، حينما التقى بالشاعر محمد يوسف موسى، ونتجت عن هذه الثنائية أغنيات كانت علامة كبيرة في مسيرته الفنية مثل: عايز أكون، وحُسنك أمر، وفات الأوان، وصدفة غريبة، وحنان، وتلك الأغنية الشهيرة التي أبدع ابن البادية في لحنها وأدائها وأثبتت موهبته اللحنية، أغنية (كلمة):

كلمتي مست غرورك
وفرقتنا يا حبيبي
مش خلاص كفّرت عنها
بتسهدي ونحيبي

حقًا هذه الأغنية كانت فتحًا كبيرًا في مسيرة ابن البادية الفنية. وأكثر من ٨٠٪ من أغنياته وضع ألحانها، فكانت ألحانًا ناجحة جعلته في قائمة كبار الملحنين السودانيين.
فقد كانت ألحانه أنيقة وسيمة كأناقة ووسامة صاحبها، فقد وهبه الله الوسامة والأناقة وحسن المظهر، فكان محط أنظار الحسان.
لم يشاركه في وضع ألحانه إلا القليل من الملحنين، منهم عبد اللطيف خضر، وسيف عبد القادر، وأحمد زاهر، وأحمد حميد، والسني الضوي، وأحمد جمعة، وعبد العزيز عبد الله، وبشير عباس، وعوض مدني، كما أهداه من ألحانه الفنان محمد وردي (أيامك). وكانوا إضافة لمسيرته الفنية وتنوّعًا في التلحين.
كما لحن ابن البادية ذات نفسه لزملائه من الفنانين، فلحن لحمد الريح (طير الرهو)، وثلاث أغنيات للفنان الناشئ آنذاك الأمين عبد الغفار.
سجّل للإذاعة ما يربو على الـ٦٤ أغنية، وهناك بعض الأغنيات لم تُسجّل. ولقد تغنّى بأشعار أكثر من ٤٠ شاعرًا منهم: الصادق اليأس: تعال يا ليل، وليالي الصبر، والباقي باقي، وسكة الشوق، والمقادير، وأراضي بلدنا. الشاعر محجوب سراج: أغلى حب، والجرح الأبيض، وعواطف. الشاعر أبو قرون عبد الله أبو قرون: من أجل ليلي، والملك جل جلاله، وقول بحبك.
الشاعر خورشيد: شوية شوية، وفي محراب الحب. الشاعر سيف الدسوقي: لو تمر رسل تحية، وفي رحاب الله مواعيدك. والشاعر السر قدور: ست البنات، وأيامك كانت أيام، والتكامل، وتاجر عطور. والشاعر عبد الرحمن الريح: لمتين بتلاقيني، وإحساس. الشاعر أبو آمنة حامد: سال من شعرها الذهب، وجيل الرواد. والشاعر محمد صالح بركية: الهدف، وحرف نون. والشاعر أحمد حميد: أسير الغرام، لاموني. والشاعر أبو قطاطي: يا ربي هل طاريني قلبو، وبستناك. وكباشي حسونة: لحظات سعيدة. ومحمد حسيب القاضي: ليلة السبت. وعثمان خالد: رحِلّة عيون. وجيلي عبد المنعم: إيامك. والهادي العمرابي: مي. ومبارك حسن خليفة: دموع الشوق. ومبارك المغربي: حب الأديم. وذو النون بانقا: فتاة العاصمة. وعبد القادر أبو شورة: أحلى الكلام.: وهاشم صديق: الشوق، والوطن. وإسحق الحلنقي: معاني العيد. والياس محمد أحمد: يا مسافرين. وعبد الله النجيب: إنت أغلى.
بالإضافة إلى عدد من الشعراء. هكذا تنوع ابن البادية في اختياره للشعراء وكلماتهم التي عززت من مكانته، فأصبح رقمًا لا يُستهان به في دنيا الغناء السوداني.
رحل عن دنيانا الفانية وبقيت سيرته العطرة يفوح شذاها طيبًا عطرًا، ونتمنى من الله أن يسكنه فسيح جناته.