أفكار لها سيقان

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

أفكار لها سيقان

كلما تذكرت قرية وادعة في كردفان توزع اللبن والإبتسامة لضيف الهجوع مجاناً وكل ما تذكرت أغنيات المردوم في ليلة صيفية بهيجة والقمر يتلألأ علي وجه العروسين وأطباق الثريد تطوف علي الحاضرين، تذكرت أن أقرب تشبيه لهذه القرية الوادعة إسم (الغزالة) ومن بين غابة الهشاب الغريبة يتسلل الوغد القاتل صياد البراءة والقادم من صحراء اللؤم ومجاهل الدناءة، صحت في وجه القرية الغزالة ولكن صوتي أكله فحيح الرصاص وسقطت الجميلة على وجه الرمل والقمر حالمة وبريئة بدمعة فياضة بالشفافية والوداعة وبعد أن سرق لصوص الشتات باقي المائدة والعطور وشفاه الجميلات وخيل الفرسان المغدورين وغادروا البيدر وهم يقهقهون بصيحات الشيطان المعهودة تسللت من بين الخيام ووضعت تحت جثتها البريئة ما أحفظه من أبيات للعارفين رثاء غير متداول في الأسفار والصحف القديمة.
غزالةٌ تحت صفصافة
صيادٌ خلف السياج
عما قليل، يحينُ وقتُ الانتباه
أو وقت المراثي

2

أسميتها بالفرصة الأخيرة وهي تذكرة في إحتمال المسؤولين من المدنيين والعسكريين فقد قيل أن خليفة كتب إلى أحد عماله (الوالي في العالم المعاصر) وهو باب شهير في الأدب يوسم بعبارة ما قل ودل وهو يشابه البرقية في المكاتبات
كثر شاكوك
وقل شاكروك
فإما اعتدلت وإما اعتزلت.

3

وفي أدب (الإنترفيو) المعاينة لمعرفة صحوة الفكرة عند الصبيان والشباب عند اختيارهم لأي موقف أو وظيفة ما قرأته عن الجاحظ الذي سأل يوماً فتي في مقتبل العمر
هل يسرك أنة يكون لك خمسة آلاف درهم وأنت أحمق؟
قال: لا
قال: ولم؟
قال: لأني أخشى أن أجني جناية يذهب بها مالي ويبقي عليّ حمقي.

4

قديما كان الناس أصحاب حصافة يدركون المراد بالنظرة فالسائل يرسلها بلؤمها والمتلقي يعلمها لحد ذكاءه وإحساسه الفياض بالفطنة أما في زماننا هذا فما عادت العيون تسأل وما عاد المعاتب يجيب وفي كثير من الأحيان يصرخ المتسائل بأعلى صوته الذي يشابه الزعيق فلا يجيب المعاتب بل يظنها من شدة حمقه (همسة) ومما يشابه هذا الحال أن معاوية نظر إلى البجاد بن أوس، الخطيب النسابة في عباءة رثة وهو يجلس في زاوية من المجلس فألقى عليه نظرة ازدراء تبينها البجاد فرد عليه:
يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك… إنما يكلمك من فيها.

5

كان أبو العيناء من ظرفاء بغداد وحكماءها وكان أعمي متمرد وخليع فإن جمعت لطائفه لكانت كتاباً، وكان سريع البديهة حاضر الجواب (رباطابي النزعة والجرأة والذكاء والسخرية القارصة غير الجارحة) تقول الحكاية أن رجلاً سلم على أبي العيناء فسأله:
من الرجل؟
قال: من بني آدم
فقال أبو العيناء: مرحباً بك ! والله ماكنت أظن أن هذا النسل إلا قد انقطع.

6

ومن العبارات التي تغضب العباد ولا تفيد العذاب قول أب حنيفة
(النكاح أفضل من العبادة)
وقد قال تلاميذه مستدركين أن الرجل الصالح كان يعني النوافل.

7

في جلسة مع بعض المذيعين والمذيعات الجدد قلت لهم ناصحاً عليكم بالإطلاع في اللغة ومظانها من الكتب، وقد ذكرت لهم أكثر من عشر كتب مؤسسة في الأدب واللغة والعربية وآدبها وقلت لهم قادحاً إنكم تكثرون مفردة (جميل) لكل شئ حتى مَلها الناس رغم جمالها فالغناء عندكم جميل والإجتماع جميل والمحاضرة جميلة والمساء جميل القول جميل والفعل جميل حتي كدتم أن تقولوا والقبيح جميل مع أن لكل مقال وحدث مقال خاص واسم خاص وأيضا تكثرون من استعمال الحب في كل شئ مع أن الحب في اللغة حسب المقدار درجات، فطالبوني بمثال وأرجو أن لا أكون أخطأت بعد أن حاصروني بالأسئلة، مثلا مفردة الحب لها في العربية أسماء حسب الحال ووصف حسب درجة التعلق والحب عند العرب مراتب تبدأ بالإستحسان ثم المودة ثم المحبة ثم الخلة ثم هوى ثم العشق ثم التتيم ثم الوله.
وإنصافاً للعامية السودانية سوف أورد كل هذه الدرجات في الغناء السودانية في مرة أخرى.

8

كان أستاذنا الدكتور أحمد الطيب الفاتح قريب الله عليه رحمة الله يقول لنا فنكتب وكان دائم العطاء في حصصه ومحاضراته بفيض من الكلمات المأثورة ومما حفظناه من الرجل (إن الدولة الطيبة تبدأ بالطعام الطيب الحلال) ويستدل بقول العارف إبراهيم بن أدهم:
أطب مطعمك ولا عليك أن تقوم الليل ولا أن تصوم النهار.
قوله أطب مطعمك: ليكن عيشك بالحلال.

9

وقال أحد الصالحين وهو ما نقترحه عليك للحفظ والتطبيق في باب الخوف قوله إن الخوف على مراتب: خوف وخشية وهيبة، فالخوف من شروط الإيمان والخشية من شروط العلم والهيبة من شروط المعرفة.

10

أحد الشهداء الشباب بالفاشر كان مداوماً على الإطلاع بمسجدها التي قتلت الملشيا المصلين فيه صبحاً، لم يجدوا في جيبه غير عبارة التبريزي وهم يحاولون سرقة كل شئ كل شئ حتى بريق الأعين إلا هذه الورقة التي ضمخها دمه الطاهر فكانت العبارة التي قرأها قائد السفاحين وهو لا يبالى مع أنها كانت تسكر الصخر وتفيض رقة وماء (عندما أخبرته أن قلبي من طين سخر مني لأن قلبه من حديد قريبا ستمطر سيزهر قلبي ويصدأ قلبه).