التشكيلي أبو الحسن مدني .. بصمات واضحة في فن النحت والتلوين والتصميم

بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظ

داخل تاريخ الحركة التشكيلية السودانية تبرز أسماء كثيرة، منها من وضع بصمته داخل السجل النحتي والتلوين والتصميم. يظل أبو الحسن مدني أحد أشهر التشكيليين الذين صوّروا الحياة السودانية أجمل وأوضح تصويراً.
تميّز أبو الحسن مدني بالموهبة الخارقة في الرسم، فهو يعد من أبرز المساهمين والناشرين للفنون البصرية. وهي تجربة انطلقت من مدينة بورتسودان حتى تجاوزت حدود البلاد، وكان هو صاحب تجربة معرض تشكيلي أقيم في برلين، عاصمة ألمانيا الغربية آنذاك، في العام 1980 من القرن الماضي.
حدث ذلك حين كان يعمل بشركة السودان للخطوط البحرية، وكان على ظهر السفينة النيل الأبيض التي رست لفترة بأحد الموانئ البحرية في ألمانيا، وكان مقرراً لها أن ترسو لأيام تقارب الشهر، فنسق مع الجهات المختصة في الباخرة والسفارة السودانية، واستغل هذه الفترة في إقامة معرض تشكيلي للوحاتِه التي تصوّر الحياة في السودان وشرقه.
حظي المعرض بتغطية واهتمام إعلامي ألماني، كما زاره العديد من الأسر والأفراد والجالية السودانية.
كانت أيام المعرض بمثابة مزارٍ يوميٍّ وتجمعٍ اجتماعي وثقافي.
كتب عنه الأخ الأستاذ حافظ سنادة مقالاً مرجعياً وثائقياً قال فيه إن مكتب الإعلام بشركة سودان لاين كان يحتفظ – إلى وقت قريب – بالتغطيات الإعلامية والإشادات الواسعة التي حظي بها هذا المعرض، والذي ساهم في عكس صورة الشعب السوداني.
وأبو الحسن مدني من مواليد مدينة عطبرة، وبحكم عمل والده في السكة الحديد، انتقلت الأسرة إلى مدينة بورتسودان، ومن ضمنهم فناننا الراحل.
كان من الأعضاء المؤسسين لاتحاد الأدباء والفنانين، الذي قام عند تأسيسه على خمس روابط وهي:
الغناء الحديث، الغناء الشعبي، المسرح، الأدب، التشكيل.
وكان أبو الحسن مدني من ضمن أعضاء رابطة التشكيليين، التي اهتمت بالفنون البصرية.
ومنذ التأسيس ظل نشاط الرابطة متقطعًا أحياناً، ثم يعود ليتواصل، ربما لطبيعة الفن التشكيلي التي تختلف عن الفنون السمعية كالغناء والمسرح. لكن اسم أبو الحسن مدني خُلد ضمن جيل التأسيس لاتحاد الأدباء والفنانين.
كان نشاطه المجتمعي واسعًا جدًا، وحوّل المدينة إلى معرض مفتوح.
ساهم في تجميل وجدان الناس؛ فكلما تحركت في أرجاء المدينة، وخاصة في منطقة السوق بوسط بورتسودان، وجدت لوحة بديعة أو لافتة مكتوبة بخط أنيق تحمل إمضاءه وتوقيعه المميز. هذا التوقيع أصبح علامة جمالية تميز المدينة الساحلية. وقد شبّه عدد من المهتمين بالحركة الثقافية والفنية في بورتسودان فترة الثمانينيات من القرن الماضي بأنها عصر ازدهار الجمال، إذ كان مكتب الإعلام والعلاقات العامة بشركة سودان لاين – بفضل إبداع أبي الحسن مدني ورفاقه – بمثابة معمل جمالي يصوغ الذوق الرفيع ويهذّب الحس البصري.
وفي زمنٍ كان التصوير الفوتوغرافي فيه أشبه بالمعجزة – حيث كانت الأفلام تُحمَّض في الخرطوم، وتستغرق العملية أسابيع – فتح أبو الحسن مدني استوديو للتصوير باسم استوديو العظمة.
كان الناس ينظرون إليه كأنه ساحرٌ يستعين بكائنات خفية لإنجاز هذا العمل المذهل في ذلك الوقت!
ومع مرور الزمن، انتشرت أماكن التصوير وتطورت، لكن يظل أبو الحسن مدني من روّاد التصوير الأوائل في بورتسودان، إن لم يكن الأول. كما كان من أوائل من امتلكوا كاميرات فيديو، ووظفها في توثيق المناسبات الفنية والاجتماعية.
وقد روى أحد الفنانين القدامى بأسى قائلاً: “غنّينا قبل أن يظهر أبو الحسن مدني، فضاع غناؤنا بلا توثيق .. حليل غنانا الما حفظوا لينا أبو الحسن .. حليلنا!”
قام أبو الحسن مدني، ببسالةٍ معروفةٍ عنه، بإعادة ترميم تمثال بطل شرق السودان الذي كان يقف شامخًا بجوار المجلس البلدي، بعد أن تم تكسيره في لحظة هوس.
أعاد التمثال كما كان، محافظًا على شكله الأول بدقة فنية عالية، قبل أن تُزال النسخة الأصلية لاحقًا بقرار رسمي.
كما كان المشرف الفني على أغلب معارض الولاية التي كانت تشارك باسم البحر الأحمر في معرض الخرطوم الدولي، وشارك معه فنانون تشكيليون كبار مثل مصطفى أبو طالب وإبراهيم عبد السلام، رحمهم الله جميعًا.
ساهم من خلال عمله في مكتب الإعلام والعلاقات العامة بشركة سودان لاين في إضفاء صورة جمالية على شوارع بورتسودان عبر لوحات فنية جميلة على الدوّارات الشهيرة مثل: صينية الجبنة، صينية جوفر، صينية النوارس. فكانت هذه المعالم واحة ظليلة لرسوماته.
رحم الله الفنان أبا الحسن مدني، فقد ترك بصمة خالدة في وجدان الناس وجمال المكان.
كان إنسانًا يرى في الجمال رسالة، وفي الفن حياة، وفي بورتسودان وطنًا للألوان والضوء.
رحل الموهوب أبو الحسن مدني في منتصف العام 2012، تاركاً آلاف الرسومات التي تعلن عن موهبة تشكيلية قلّ أن تتكرر في السودان.