في ذكرى انقلاب 17 نوفمبر 1958م .. وقفات مع حكومة الفريق عبود

في ذكرى انقلاب 17 نوفمبر 1958م .. وقفات مع حكومة الفريق عبود

بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظ

يظل الفريق إبراهيم عبود أحد عظماء بلادي اختلف الناس حوله أم اتفقوا، ففي خلال ست سنوات كان جهده ومنجزه الذي نحاول سرده. وكان من حظه أن اهتم أهله بالتعليم، فأُدخل المدرسة بسواكن التي كانت من مدن السودان الكبرى في ذلك الزمان، فكان تخرجه منها في العام (1914م). ولفيف الخيارات المطروحة أمام طلاب ذلك الزمان كانت كلية غردون التذكارية التي درس فيها الهندسة لثلاث سنوات.

 

المدرسة الحربية

 

في فبراير من العام (1917م) كان اختياره ضمن طلاب آخرين للانضمام للمدرسة الحربية التي تخرج منها في نهايات العام (1918م) كضابط مهندس. وظل قسم الأشغال العسكرية هو القسم الذي عمل به عبود حتى تاريخ (17 يناير 1925م)، وهو تاريخ اجتياح القوات المصرية بعد ثورة (1924م)، وهو تاريخ تكوين قوة دفاع السودان، وهو كذلك واحد من أشهر ضباط هذه القوة في تلك الفترة. وفي فبراير (1925م) تم تحديث سلاح الحملة الميكانيكية التابع لسلاح التعينات والنقل، والذي سمي فيما بعد بسلاح الخدمة.
لم يمكث كثيراً بهذه الوحدة العسكرية إذ نُقل لكسلا كضابط بسلاح فرقة العرب الشرقية كأركان حرب القيادة.
تقلد عبود منصب كمندان سلاح الخدمة، وهو أول سوداني يتقلد هذا المنصب.
بعدها تقلد منصب رئيس هيئة أركان حرب قوة دفاع السودان، ثم نائب القائد العام في (15 أغسطس 1954م)، ثم قائداً للجيش في (4 أبريل 1956م).

 

استلام السلطة

 

في نوفمبر من العام (1958م) وصلت الأوضاع السياسية لطريق مسدود بين الحزبين الكبيرين حول قضايا الدولة وسياستها داخلياً وخارجياً، فكان تحرك ضباط الجيش في فجر يوم (17 نوفمبر 1958م) بقيادته، فكان عبود قائداً لذلك التحرك الذي سمي فيما بعد بحكومة (17 نوفمبر). أو بالأحرى عملية التسليم والتسلم التي قام بها السيد عبدالله بك خليل رئيس وزراء السيدين والأمين العام لحزب الأمة في أول خيانة للديموقراطية وأول إنقلاب استلم فيه الجيش السلطة مرغماً بحجة أن البلد تتعرض لكارثة قومية حسب إدعاء السيد علي والسيد عبدالرحمن شركاء المرحلة. وللتاريخ فإن الإمام الصديق المهدي كان معارضاً للتسليم والتسلم والإنقلاب وفي شهادة موثقة لابنه السيد الصادق قال فيها إن أبي كان في رحله إلى إيطاليا حين وقع الإنقلاب فقطع الزيارة وحضر مسرعاً للخرطوم ومن المطار ذهب إلى سراي الإمام عبدالرحمن مباشرة ولأول مرة شوهد السيد الصديق غاضباً في وجه أبيه وكان باراً به وصاح في غضب أمام مجموعة من الحضور (السويتو ده شنو يا سيدي) وعندما لحظ الإمام عبدالرحمن غضب السيد الصديق دخلا غرفة جانبية وتواريا عن الأنظار لفترة طويلة ثم دارت الايام.

 

أحكموا علينا بأعمالنا

 

ومنذ أول بيان بثته الإذاعة يوم استلام السلطة عُرف الفريق إبراهيم عبود بالبساطة والنفاذ مباشرة لقلب الأمر الذي يود طرحه. وكثيراً ما كان يقول حين مخاطبته الجموع التي تنتظر خطابه بعبارة: أحكموا علينا بأعمالنا، وهي العبارة التي ظلت الجماهير تحفظها عن ظهر قلب وتتوقعها حين الاستماع له.

 

مواقف بارزة في حياته

 

تحكي كريمته سلمى إبراهيم عبود عن الكثير من المواقف والحكايا حول والدها، فتقول: كنت صغيرة حين رئاسته للدولة، فكان من المعتاد وهو رئيس للدولة أن يصطحبنا في نزهة يومية بشوارع الخرطوم من الساعة الخامسة والنصف وحتى قبيل صلاة المغرب، من المنزل المخصص للقائد العام للجيش، ومكانه الآن دار خريجي جامعة الخرطوم في تقاطع شارع الجمهورية مع شارع الجيش، قبل أن يرتحل للسكن بالقصر الجمهوري.
وتعتبر فترة رئاسته للدولة منذ (17 نوفمبر 1958م) حتى (28 أكتوبر 1964م) هي الفترة التي انفتح فيها السودان بعلاقات متينة مع عدد من الشعوب والحكومات.
فارتفع عدد السفارات العاملة بالبلاد من (11) سفارة إلى (31) سفارة في ظرف أربع سنوات، مع قفز التمثيل الدبلوماسي لسفارتنا بالخارج من درجة الدبلوماسية الصغرى لدرجة سفير، هذا مع ارتفاع عدد سفاراتنا بالخارج من (16) سفارة إلى (33) سفارة.
وفي جانب الرحلات الخارجية لعبود فإنها كانت بغرض إيجاد موطئ أقدام في طريق العلاقات بين السودان وبقية الدول لبناء الدولة وتنمية بنياتها التحتية.

 

التنمية في عهده

 

بلغت جملة المشروعات التي تمكنت حكومته من إنشائها حوالى (112) مشروعاً وموقعاً ومسمى تنموياً. وهو الرقم الذي تم في عهده بجهد الرجال وعزيمتهم ودمائهم. فكان من أبرز هذه المشروعات التوسعة المدهشة في مشروع الجزيرة في امتداد المناقل، زائداً حصاد المحاصيل بالآلة كأول مشروع يتم في إفريقيا جنوب الصحراء، زائداً وصول الخط الحديدي إلى جنوب البلاد، وتحديث مطار الخرطوم، وغير ذلك من المشروعات الدالة على جهد حكومته وإصرارها على العمل من أجل إنسان السودان.
وفي مجال الرياضة كان السودان واحداً من الدول التي جنت ثمار الاهتمام بها، فكان فوز السودان بكأس أمم إفريقيا (1970م) بالخرطوم نتاج جهد حكومته في الاهتمام بالبنية التحتية للرياضة.
وكذلك الوصول لأولمبياد ميونخ (1972م) كذلك إذ بدأ هذا العمل في عهده، وكان أن قطفت حكومة نميري بعد ست سنوات هذه الثمار. وزع عبود للأندية الرياضية مدناً رياضية، فكانت استادات الهلال والمريخ والموردة والتحرير (والنيل الذي لم يكتمل حتى الآن) يرَى كذلك واحدة من أفكاره لتطوير الرياضة.
أما الإنجاز الأهم في عهده فهو حصول السودان على المركز الثاني في بطولة الأمم الإفريقية بغانا عام (1963م).

 

ازدهار الفنون

 

ومنذ العام (1961م) وحتى العام (1964م) عام رحيله عن كرسي الحكم طواعية، ظلت الحكومة سنوياً تستعد لمهرجان الفنون السوداني الذي يقام بالمسرح القومي، وهو المهرجان الذي عرف السودانيين بثقافات جميع المناطق.
فكان مهرجان (1963م) هو المهرجان الذي لن يتكرر حتى الآن لحسن تنظيمه وإعداده، والذي ظهر فيه نجوم ما زالوا حتى الآن من ضمن أشهر المسرحيين والفنانين والموسيقيين. ومنهم جمعة جابر، وإسحق كرم الله، والطيب عبد الله، وأم بلينة السنوسي. وظل الفريق عبود موجوداً داخل جميع هذه الاحتفالات الفنية مما يؤكد اهتمامه بها وتشجيعه كذلك.
وفي نوفمبر من العام (1959م) تم افتتاح المسرح القومي كصرح فني ظل يقدم الفن المسرحي لمدة خمسين عاماً وتزيد، فعرف أهل السودان الاشتراطات الفنية لفن المسرح، وشاهدوا الكثير من روائع المسرح المحلي والعالمي، ومنها (المك نمر) و(خطوبة سهير) وغيرها.

 

إنشاء التلفزيون ونهضة الطيران والسكة حديد

 

أسفرت جهود حكومة عبود في تأسيس التلفزيون السوداني كثاني تلفزيون في القارة الإفريقية في ديسمبر (1963م)، وهو الآن يقف في نفس الموقع الذي شيد فيه في الستينيات.
وفي عهده تمددت محطات الطيران السوداني خارج الحدود، فظلت الخطوط الجوية السودانية في عهده مثالاً للانضباط والدقة والالتزام بمعايير الطيران الدولية.
أما السكة الحديد فقد أمكن لها أن تظل من مفاخر عهده في أزمنة تحرك القطارات ووصولها.
أما الخطوط البحرية فقد كانت للاتفاقية الموقعة مع يوغسلافيا واحدة من إنجازاته المتعددة بالبواخر التي دخلت الخدمة في عهده.

 

قصص من حياته

 

1/ منزله الذي لم يكتمل

تقول كريمته سلمى بأن أكتوبر (1964م) أوضحت وضع والدها المادي، فقد كان منزله بامتداد الدرجة الثانية (وليس الأولى) لم يكتمل، وهو الذي قام بتوزيع تلك القطع السكنية فيما يعرف الآن بمنطقة العمارات، فكان أن سكن بمنزل ابن أخيه المحامي ريثما يكتمل بناء منزله، فكان اكتماله بعد عام، فسكن به وهو يرى نفسه مواطناً بسيطاً للغاية.

2/ معاودة أحمد خير المحامي بالمستشفى

وهي قصة توضح اهتمامه وحرصه على النظام والدقة والانضباط واحترام اللوائح الخاصة بعمل الدولة، وتتلخص في مرض وزير الخارجية أحمد خير المحامي وبقائه بمستشفى الخرطوم ليوم واحد، وحين انتهاء اجتماع لمجلس الوزراء قال له حسن بشير نصر نائب القائد العام ونائب الرئيس: هيا لزيارة أحمد خير بالمستشفى، وكانت الساعة قد شارفت السادسة مساءً. فنظر عبود إلى ساعته ورد عليه قائلاً:
لكن يا حسن بشير، تفتكر بعد الزمن ده الخفير حيسمح لينا بدخول المستشفى؟.