
إبراهيم شقلاوي يكتب: زيارة موسكو .. تعزيز استراتيجية المصالح
وجه الحقيقة
إبراهيم شقلاوي
زيارة موسكو .. تعزيز استراتيجية المصالح
الخرطوم التي دخلت العام الثالث من الحرب، تقف عند مفترق طرق. من جهة، تسعى لحماية مؤسساتها الوطنية واستعادة الدولة، ومن جهة أخرى، تواجه محاولات مكثفة لتقويض سلطتها عبر مشاريع سياسية جاهزة، تحاول فرض قوى مدنية مصنوعة ، بينما يتم تجاهل واقع السيطرة العسكرية على الأرض و القوي السياسية الوازنة.
يزور الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة العاصمة الروسية موسكو، للمشاركة في القمة الروسية – العربية المرتقبة منتصف أكتوبر الجاري. الزيارة، رغم أنها تبدو طبيعية في سياق العلاقات الثنائية، تحمل أيضآ دلالات استراتيجية، لاسيما أنها تأتي في لحظة سياسية دقيقة، تتسم بمحاولات ضاغطة لإعادة صياغة المشهد السوداني من الخارج، وبشكل يتجاهل توازنات الداخل ومصالح الدولة الوطنية.
في هذا المناخ، تبدو موسكو خطوة محسوبة لإعادة التموضع وتوسيع هامش الخيارات امام القيادة السودانية . كذلك ربما تمثل إدراكًا عميقًا للواقع السياسي المعقد، الذي تسعى فيه الخرطوم إلى تعزيز استقلالية قراراتها في ظل بيئة دولية تتسم بالتنافس الشديد والصراعات المتصاعدة.
السياق العام للزيارة يُظهر تعقيد الوضع السوداني على المستويين الإقليمي والدولي. فالسودان، وهو يخوض حربًا مستمرة مع مليشيا الدعم السريع المدعومة خارجيًا، يواجه في الوقت نفسه ضغوطًا متعددة من القوى الغربية، تمثلت في عقوبات، وتجميد للمساعدات، ومسارات سياسية تتجاوز طبيعة الصراع وفاعلية القوات المسلحة السودانية ميدانيًا التي تسعي إلى استعادة الأمن.
المباحثات المنتظرة بين البرهان والرئيس فلاديمير بوتين تحمل طابعًا استراتيجيًا، إذ متوقع أن تشمل ملفات تتجاوز التعاون الثنائي، إلى قضايا ترتبط بتوازنات البحر الأحمر، وأمن القرن الإفريقي. التعاون العسكري، وتوسيع الاستثمارات الروسية في قطاعات التعدين والطاقة والزراعة، وتطوير البنية التحتية، كلها ملفات مهمة، غير أن ملف القاعدة البحرية الروسية في بورتسودان يظل العنوان الأبرز.
هذا المشروع، الذي أثار جدلاً إقليميًا ودوليًا، يعتبر ورقة نفوذ حساسة قد تعيد تشكيل موازين القوى في منطقة شديدة الأهمية. روسيا التي تسعى منذ سنوات لتثبيت حضورها في البحر الأحمر، ترى في السودان منفذًا استراتيجيًا نحو العمق الإفريقي، خاصة في ظل تضييق الخناق عليها في مناطق نفوذها التقليدية بعد الحرب في أوكرانيا.
وفي المقابل، يحتاج السودان إلى شريك دولي موثوق و مستعد لتقديم دعم اقتصادي وتنموي دون اشتراطات مسبقة. فالغرب في تعامله مع الخرطوم، لا يزال يتعامل بمنطق “الابتزاز المخزي”، ويتجاهل كثيرًا من الحقائق السياسية و الميدانية على الأرض.
زيارة البرهان تأتي أيضًا بعد أيام من انعقاد الدورة الثامنة للجنة الوزارية السودانية الروسية، التي شهدت توقيع عدد من مذكرات التفاهم في مجالات النقل، والتعدين، والبنية التحتية، والطاقة والمصارف. ارتفاع حجم التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 92% خلال عام واحد، يعكس مؤشرات واضحة على أن موسكو تسعى لملء الفراغ الذي خلّفه تراجع الشركاء الغربيين، بينما تنفتح الخرطوم على خيارات جديدة، تضمن لها استمرار الحد الأدنى من النشاط الاقتصادي والاستثماري.
لكن رغم الفرص، لا تخلو هذه التحركات من مخاطر. فالسودان لا يستطيع الانحياز الكامل لأي محور دولي دون أن يدفع كلفة سياسية واقتصادية. لذلك التوازن الحذر بين الشرق والغرب، بين الشراكة مع موسكو والحفاظ على حد معقول من التواصل مع واشنطن وأوروبا ، هو التحدي الحقيقي.
فاستعداء الغرب قد يؤدي إلى مزيد من العقوبات وربما تجميد جهود إعادة الإعمار، فيما الارتماء غير المحسوب في الحضن الروسي قد يجرّ السودان إلى استقطابات عسكرية إقليمية لا يحتملها في ظرفه الراهن.
ومن هنا فإن المطلوب ليس الانحياز، بل مقاربة مدروسة تقوم على تنويع الشراكات دون الارتهان، واستثمار الموقع الجيوسياسي الاستثنائي للبلاد المطل على واحد من أهم الممرات البحرية في العالم بما يعزز من استقلالية القرار الوطني، ويعيد للسودان موقعه كفاعل إقليمي، لا تابع ضمن التحالفات.
لا شك أن مجموعة التحالف الظرفي المعروفة بالرباعية الدولية تراقب هذه الزيارة عن كثب، كما تراقبها القوى الإقليمية والدولية ذات المصلحة في مستقبل البحر الأحمر. إذ أن أي تفاهمات عسكرية أو اقتصادية ناتجة عنها قد تعيد خلط الأوراق، وتفتح الباب أمام تحولات غير متوقعة.
فالسودان، رغم تحدياته ، لا يزال يحتفظ بأوراق قوة لا يُستهان بها: موقع استراتيجي 850 كلم تقريبآ علي ساحل البحر الاحمر ، موارد طبيعية هائلة، وتأثير مباشر على أمن سبع دول افريقية حدودية تعاني جميعها من اختلالات أمنية حادة.
الخرطوم لا تستطيع مواصلة الوقوف في المنطقة الرمادية. الضغوط الغربية تتزايد، والفراغ السياسي الداخلي يفتح شهية التدخلات الخارجية. ومن هنا، فإن زيارة البرهان لموسكو تُقرأ كرسالة متعددة الاتجاهات: إلى الغرب بأن السودان لا يزال يملك بدائل، وإلى الداخل بأن القيادة لا تزال قادرة على التحرك بفاعلية، وإلى القوى الإقليمية بأن الخرطوم ليست ساحة مفتوحة للابتزاز و التجاوزات.
زيارة موسكو إذن تعبير عن محاولة واضحة لكسر الحصار السياسي المفروض، وإعادة التموضع في ساحة دولية باتت أكثر استقطابًا. صحيح أن الزيارة لن تخرج السودان من أزمته دفعة واحدة، لكنها تمثل خطوة ضرورية نحو استعادة زمام المبادرة، وتثبيت مفهوم السيادة الوطنية، في وقت تسعى فيه أطراف عديدة لرسم مستقبل البلاد بعيدًا عن إرادة شعبها.
الرهان في النهاية بحسب وجه الحقيقة لن يكون فقط على نتائج المباحثات، بل على قدرة القيادة السودانية على ترجمة هذه التحركات إلى مكاسب استراتيجية حقيقية، تحفظ توازن السودان في بيئة إقليمية مضطربة، وتعزز من قدرته على بناء شراكات متوازنة تخرجه من نفق العزلة، دون أن تجعله رهينة لأي محور أو استقطاب خارجي.
دمتم بخير وعافية.
السبت 11 أكتوبر 2025م Shglawi55@gmail.com